هدي نبينا المصطفى ▪●عليه افضل الصلاه والتسليم قِسِمْ خاص للدّفاعْ عنْ صفْوة
و خيْر خلقِ الله الرّسول الكريمْ و سِيرَته و سيرة أصحابِهِ الكِرامْ و التّابعينْ
بر الرسول مع الطائف
وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة، فعل مع أهل الطائف، وهي ثاني أعظم مدينة في الجزيرة العربية بعد مكة، وبها قبيلة ثقيف من أهم القبائل العربية..
لقد ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام العاشر من البعثة، بعد وفاة أبي طالب، ذهب صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، ويستثير فيهم شهامة العرب ونجدة الشرفاء، فبماذا استقبلوه؟!
لقد استقبلوه بما لم يتخيَّله صلى الله عليه وسلم من السخرية والاستهزاء!
ولقد تحدث سادتهم معه بدرجة من السفاهة والحماقة، يندُر أن تُوجد في سادة قوم..
قال له عبد ياليل بن عمرو: إنه سيمرط[1] ثياب الكعبة إن كان الله أرسله!!
وقال مسعود: أمَا وجد الله أحدًا غيرك؟!
وقال حبيب: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأَنْتَ أعظم خطرًا من أن أردَّ عليك الكلام، ولئن كُنْتَ تَكْذِبُ على الله ما ينبغي أن أكلمك[2]!!
ومع ذلك مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام[3] يدعو في الطائف، فما ترك أحدًا إلا كلَّمه في الإسلام، ورغم ذلك فقد اجتمعت المدينة بكاملها على تكذيبه، ثم قالوا له في اليوم العاشر: اخرج من بلادنا!!
وقد أغرَوْا به سفهاءهم وغِلْمَانَهُمْ، فَصَفُّوا أَنْفُسَهُمْ صفين خارج الطائف، وأرغموه صلى الله عليه وسلم وصاحبه زيدًا على المرور بين الصفين، وجعلوا يقذفونهما بالحجارة، حتى سالت الدماء من قدميه الشريفتين، وشُجَّتْ رأسُ زيد بن حارثة[4] رضي الله عنه!!
وانطلق الرسول r ومعه زيد رضي الله عنه يعدوان بعيدًا عن المدينة، والسفهاء وراءهما بالسباب والحجارة، حتى أرغموهما على دخول حائط[5] لعتبة وشيبة ابني ربيعة، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء المشهور الذي يفيض ألمًا وحزنًا فقال:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي؟ أَمْ إلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ تَكُنْ غَضْبَانَ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِوَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ، وَصَلحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحُلُّ بِي سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ»[6].
ثم ينطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة وهو لا يدري كيف سيدخلها، وقد فعل قومها معه ما فعلوه. ويصوِّر لنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حاله ونفسيَّته فيقول: «فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ»[7].
إنه ينطلق ولا يكاد يرى شيئًا أمامه من الحُزن، بل إنه في شبه إغماءة، إذ يقول: «فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ»!! وقرن الثعالب تبعد عن الطائف حوالي خمسة وثلاثين كيلو مترًا..!!
إنها أشد المواقف صعوبةً على نفسه صلى الله عليه وسلم مطلقًا..!!
في هذا الموقف العصيب يقول صلى الله عليه وسلم: «فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ». فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا»[8]!!
وهذا أيضًا من أعجب مواقف التاريخ!!
إن الله صلى الله عليه وسلم أرسل جبريل عليه السلام ومعه ملك الجبال؛ ليأتمر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وليدعوه صراحةً إلى الموافقة على إهلاك القوم، وفي إرسال ملك الجبال نفسه إشارة واضحة إلى أن الله صلى الله عليه وسلم لن يعتب على رسوله إذا طلب إهلاك القوم، ومع ذلك فهلاك الناس على الشرك لا يَسُرُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم!!
إن له مهمَّة أصيلة واضحة صلى الله عليه وسلم، وهي استنقاذ الناس من الجحيم، والناس لا تدري، وتتجه إلى هاويتها مُسرِعة، والرسول صلى الله عليه وسلم أشدُّ حرصًا عليهم من أنفسهم، فيتمالك أعصابه سريعًا، ويأخذ قراره دون تردُّد: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
هل تملك أمة من الأمم هذا التاريخ؟!
هل يعرف المسلمون الثروات الهائلة الكامنة بين بطون الصفحات، والتي شَرَحَتْ بالتفصيل كلَّ لحظة من لحظات حياة سيِّد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم..؟!
وتمرُّ الأيام، وتظلُّ ثقيف على كفرها.. لقد قاومت كثيرًا، وصدَّتْ عن سبيل الله كثيرًا، واشتركت مع هوازن في الحرب ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقعة حنين، وانتهت الموقعة بهزيمتهم وفرارهم إلى مدينتهم الطائف، وذهب إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرها حصارًا شديدًا مُدَّةَ شهر كامل، لكنه لم يتمكَّن من فتحها؛ لمناعة حصونها وقوة مقاتليها، فقرَّر بواقعيَّة أن ينسحب ويتركها، وحزن الصحابة لذلك، وقالوا: يا رسول الله، أحرقتْنا نبال ثقيف، فادع الله عليهم. قال: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا»[9]!!
بعد كل هذه المعاناة والتعب يكون ردُّ فعله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ ثَقِيفًا»!!
نعم.. اللهم اهدِ ثقيفًا، واهدِ كل البشر.
إن من فَقِهَ منهجَ حياته صلى الله عليه وسلم وعَلِمَ الأهدافَ السامية التي عاش من أجلها، وأدرك عظمة أخلاقه، ونُبل صفاته، وصفاء سريرته، ونقاء قلبه.. من علم كل ذلك فلن يستغرب أفعاله، ولن يتعجب من مواقفه صلى الله عليه وسلم.
لقد أدرك قِصَرَ الحياةِ وسُرْعَتَهَا، وعلم قيمة الجنة وعظمتها، وفَقِهَ عذاب النار وقسوته، فوهب حياته بكاملها لهداية البشر أجمعين، وما رأى حقًّا لنفسه؛ فما فكَّر قَطُّ في ثأرٍ لذاته، أو انتقام لكيانه..!!
نسأل الله صلى الله عليه وسلم أن يحشرنا في زمرته صلى الله عليه وسلم، وأن يجمعنا تحت لوائه.
وفي المقالات القادمة صورٌ أعجب وأغرب.. وسبحان مَن وصف الفضل الذي أعطاه لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمً} [النساء: 113]..
[1] سيمرط: سيقطع.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 2/267.
[3] ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/212.
[4] هو زيد بن حارثة بن شراحيل ال***ي، مولى رسول الله، أول من أسلم من الموالي، تزوج السيدة زينب بنت جحش ثم طلَّقها، ثم تزوج بأم أيمن. من أولاده أسامة بن زيد. وقد استُشهد بمؤتة من أرض الشام سنة ثمان من الهجرة، وكان أميرًا على الجيش. انظر: ابن عبد البر: الاستيعاب 2/114، وابن الأثير: أسد الغابة 2/140، وابن حجر: الإصابة، الترجمة رقم 2885.
[5] حديقة.
[6] قال الهيثمي في المجم/35: رواه الطبراني، وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة، وبقية رجاله ثقات، وأخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي 1839.
[7] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى 3059، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين 1795. وقرن الثعالب: هو قرن المنازل، وهو ميقات أهل نجد، وهو على مرحلتين من مكة، وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير.
[8] نفس التخريج السابق، واللفظ هنا لمسلم.
[9] الترمذي 3942، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. وأحمد 14743، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده قوي على شرط مسلم.