رحمة
الرسول مع من أذاه
هذا موقفه صلى الله عليه وسلم مع (زيد بن سعنة) وكان من أحبار اليهود.. قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله،ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حِلمًا، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله.قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجرات، ومعه علي بن أبي طالب، فأتاه رجل على راحلته كالبدوي، فقال:
يا رسول الله، قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام، وكنت أخبرتهم أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغدًا، وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث، وأنا أخشى - يا رسول الله - أن يخرجوا من الإسلام طمعًا كما دخلوا فيه طمعًا، فإن رأيت أن تُرسِل إليهم من يُغيثهم به فعلت. قال: فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل جانبه - أراه عمر - فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله.
قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه، فقلت له: يا محمد، هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: "لا يا يهودي، ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى أجل كذا وكذا، ولا أُسمي حائط بني فلان"، قلت: نعم. فبايَعَنِي صلى الله عليه وسلم ، فأطلقت همياني، فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا، قال: فأعطاها الرجل وقال: "اعجل عليهم وأغثهم بها".
قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، ونفر من أصحابه، فلما صلَّى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه، ونظرت إليه بوجه غليظ، ثم قلت: ألا تقضيني - يا محمد - حقي؟ فوالله إنكم - يا بني عبد المطلب - قوم مُطْل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم!!
قال: ونظرتُ إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع، وتفعل به ما أرى؟! فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي هذا عنقك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: "إنَّا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة؛ اذهب به - يا عمر - فاقضه حقَّه، وزده عشرين صاعًا من تمر مكان ما رُعْتَهُ".
قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي، وزادني عشرين صاعًا من تمر، فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رُعْتُكَ، فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا، فمن أنت؟ قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحَبْر؟ قلت: نعم، الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت، وتفعل به ما فعلت؟
فقلت: يا عمر، كل علامات النبوة قد عرفتُها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم أختبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا، فقد اختبرتهما، فأُشهدك - يا عمر - أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا، وأشهدك أن شطر مالي - فإني أكثرها مالاً - صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
فقال عمر: أو على بعضهم؛ فإنك لا تسعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم. فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم "[8].
فانظر - رحمك الله - إلى هذا اليهودي الذي يُخطِّط ويدبر لكي يستثير غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامدًا متعمدًا؛ لكي يختبر صدق نبوته، فقام بعدة أمور الواحد منها يكفي لإثارة غضب أي إنسان..
فقد ذهب – أولاً - لطلب الدَّيْن المستحق له قبل الموعد المحدد له.
ثم أخذ – ثانيًا - بمجامع قميصه وردائه صلى الله عليه وسلم يجذبه..!! وتخيل هذا الموقف والرسول صلى الله عليه وسلم في وسط أصحابه، وأمام الناس!
ثم نظر إليه – ثالثًا - بوجه غليظ..
ثم ناداه - رابعًا - باسمه مجردًا من أي لقب ولا كنية، فقال: ألا تقضيني يا "محمد" حقي؟
ثم هو – خامسًا - يسبُّه صلى الله عليه وسلم ويَسُبُّ عائلته حين قال: فوالله إنكم - يا بني عبد المطلب - قوم مطل..!!
فهذه أسباب خمسة، فيها من التطاول والتعدي ما فيها.. فإذا أضفت إلى كل هذا أن اليهودي يخاطب رأس المدينة المنورة وأعلى سلطة فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقف آنذاك في وسط قوته وعزوته من المهاجرين والأنصار.. إذا أضفت ذلك عرفت أن الجزاء المتوقع لمثل هذا المتطاول قد يكون في أعراف كثير من الناس هو القتل! وهو ما لم يكن غريبًا؛ فقد اقترحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان يحضر الواقعة.. فماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ..؟!
لقد تلقى صلى الله عليه وسلم هذه الاعتداءات - ولا أقول بِتَفَهُّمٍ والتماس عذرٍ فقط - ولكن تلقاها بابتسامة وترحاب!!
لقد نظر
الرسول صلى الله عليه وسلم - كما يروي زيد بن سعنة - إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به - يا عمر - فاقضه حقه وزده عشرين صاعًا مكان ما رُعْتَه!!.
إنَّ هذا ليس مجرد عدل، بل - يقينًا – هو أعلى من العدل! إنه – حقيقةً – رحمة!!
إن هذا السلوك السامي لا يفهمه عامة الملوك والسياسيين، بل لا يفهمه عموم الناس.. إن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله يقول لعمر: إنه كان أحوج إلى نصيحة بحسن الأداء!! مع أنه لا يحتاج لهذه النصيحة؛ لأن موعد السداد لم يأتِ بعد، ولكنها محاولة لتسكين فؤاد اليهودي والتبسط معه..
وهو صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يرى أنه من الرحمة أن يعوضه عن الخوف الذي لحقه من جَرَّاء تهديد عمر رضي الله عنه ، فزاده عشرين صاعًا، وكل هذا دون انفعال أو تصلُّب، ودون أن يأخذ قسطًا من الوقت يفكر فيه، ويحسب العواقب والنتائج..
إنه رد فعل طبيعي جدًا له، وهو غير متكلف فيه.. فهذه هي طبيعته الفطرية صلى الله عليه وسلم مع عموم الناس، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، وسواء أحسنوا العرض أم أساءوا في الطلب..
ألا يحتاج سياسيو العالم وملوكه وقادته أن يقرءوا مثل هذه المواقف ليعرفوا ميزان الرحمة الذي يجب أن يَزِنوا به أعمالهم ومواقفهم؟!
ألا يحتاج علماء الأخلاق والاجتماع في العالم أن يتعمقوا في دراسة سيرة
الرسول صلى الله عليه وسلم لتغيير معايير الأخلاق والقيم التي يعرفونها وفق ما يرونه من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ؟!
إن العالم - بشتى مرجعياته وعقائده - لَيَحتاج حقيقةً إلى هذا المعين الصافي من أخلاق النبوة، ويوم يعرف الناس هذه الأخلاق ستتغير - لا محالة - الكثير والكثير من أوضاع الأرض، وستُفتَح طرقٌ واسعة للخروج من كثير من المشكلات والأزمات.
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"