قناديل الحكم (1)
• ابحثْ عن تلك الأنا التي تسكنُ بداخلك، قبل أن تحيا مشطورًا في زمن الاغتراب، ورهين أشواقٍ تهفو إلى انبعاثِها من جديد، فتضيع منك وسط دهاليز حياتك المُعتِمة، ووسط زحام الفتن والخطوب المتتالية.
• إن ما تفقدُه اليوم قد تجده غدًا، أو قد تقابله في مواقفَ عدَّة، وبصورٍ شتى، وتعبيرات أخرى، ورؤى مختلفة.
• حين يكونُ المعنى الذي يُحرِّكك صادقًا خالصًا، يكون ظهورُه أقوى، وله انبعاث يتجدد ويتكرر، بقدر تمسُّكك بجذوره، وارتباطك الوثيق بوجوده، وبقدر رغبتِك القوية وإرادتك الطامحة إلى إحياءِ تاريخه، في أي فصل من فصول حياتك.
• لا تصاحبْ مَن كان ممن يُخشى مِن زلات لسانه وخوارم مروءته، ولا يُستَأمن على صَوْن عِرْضك وشرفك، ولا على حفظ أسرارك، ولا يملك عِقاله ولا لِجامه، فإن لم تجدْ سبيلًا إلى هدايتِه، ويئِستَ من صلاح حاله، فتعجَّل بمفارقته، واحذَرْ من مخالطتِه ولزومِ مجالسه.
• كُنْ ذا عقلٍ يُفكِّر قبل أن تختار أو تقرر، فإذا ملكتَ اللبَّ الرشيد والرأي السديد، ملكتَ الرصانة والحصافة، والأناة والصبر الجميل، والقدرة على التعبير بلسان بليغ فصيح، فتَأْسِر القلوب، ويصطف الناس حولك، كما الفراش تلفُّ وتدور حول الزهور.
• كُنْ أنتَ المفكِّر، ولا تبحثْ عن ذاك المفكر خارج ذاتِك، وخارج جغرافية تفكيرِك، وكن مميزًا بتفكيرك ومختلفًا عن غيرك، لك أفكارُك وأحلامُك التي تختلف عمَّن تقدموك في النجاح والإنجاز، وكن عظيمًا كما أنت، لا خيالًا ينشد أن يكون انعكاسًا للحقيقة، أو ظلًّا يختفي خلف ستار التقليد للعظماء.
• كلما شعرتَ بالاحتياج والافتقار إلى غيرك، والارتباط الشديد بالأشخاص، استَعْبَدك الخوف والهلع، وصرت مسلوب الإرادة، فاجتَهِدْ أن تصنع لنفسك وجودًا حرًّا ومستقلًّا، يَهَبك الشعور بالأمان والاكتفاء، والاستغناء بالله عمَّن سواه.
• إذا اتَّسعت مساحة عقلِك، أدركتَ أن لا شيء أضيق على الصدر من انسدادِ شريان القلب، إذا حمل مجراه ما يضيق بحمله.
• أنتَ لستَ مِلْكًا مُشاعًا للعابرين الغرباء، حتى تُشارِكهم فصولَ حياتك وشريط يوميَّاتك، ولستَ كِتابًا مفتوحًا أمام كل طبقات القرَّاء، أو ألبومًا من الصور للعَرْض والمشاهدة والإبهار.
• احتفِظْ بجوهرِك في أصدافِه، فالجمال والبهاء يسطعُ من قوقعتِك المصونة، والعيون تغضُّ الطرفَ عن الصور المشاعة، والقلوبُ إنما تهفو إلى ما يختبئ خلف السترِ الكثيف الغموض.
• لا تُقدِّم إلى مَن حولك إلا ما ظهر منك وانكشف، أما ما يتحرَّك بداخلك من الخبايا والأسرار، فهي مِلْك عالَمِك الخاص، المحاط بسياجِ الستر، وحجاب الحفظ والصيانة.
• لا تجعلْ كلَّ تغيير أو تجديد بحياتك يُؤثِّر على نظرتِك وتقييمك لمَن حولك، فتتحوَّل إلى شخصٍ يلازم مِنصَّة القضاء، ويحاكم الناس على اختياراتهم وقراراتهم بلا رويَّة أو أناة.
• لا تُعلِّقْ أخطاءك على حركة الزمن، فالساعات تمضي ولا شيء سيتغيَّر فيك أو في وجودك، إلا إذا اخترت أن تكون في كل طورٍ من أطوار حياتك إنسانًا جديدًا، لك غاية عظيمة ورسالة نبيلة، وقرَّرت أن تتخلَّى عن عجزك وخمولِك، وسعيتَ بهمَّة وعزيمة إلى الارتقاء بمؤهلاتك العِلمية والمعرفية، وحسَّنت أسلوبَ تفكيرك ومنطِق لسانك وتعبيرك، واكتسبتَ مهارات جيدة في التواصل والحوار وتنمية الذات.
• إذا حل ميقات الرحيل، فاعلم أن رحلة سفرك قد ابتدأت، فلا تُطِلِ المكوثَ عند محطَّات الانتظار الطويل، تُمنِّي نفسك بأحلام لن تتحقق.
• لا تُلوِّح بمناديل الوداع إلى أولئك الأشخاص العابرين على رفات الذاكرة؛ فهم لا يستحقون أن تُخلِّد تاريخهم المنسي، أو تحنَّ إلى وداعهم بعد أن رحَلوا عنك منذ أمد بعيد.
• تعلَّم أنْ تُواصِلَ طريقك وإن كنت فردًا بلا صاحب ولا رفيق؛ فطريق حياتك لا ينتهي عند محطات أولئك الذين يَظهَرون عند الشروق، ثم يُودِّعونك عند الغروب.
• لا تُدمِن الشعور بوخزات الألم، ولا تعتكفْ في محراب حزنك الطويل النزف، بل يكفيك أن تُهيِّئ نفسك لاستقبال صروف الحياة، والرضا بأقدار الله خيرِها وشرِّها، والاستعداد لتقلُّبات الفصول وتبدُّل الأحوال، وشُدَّ ساعد الهمَّة للانتصار على تجاذبات المحن، ومغالبة الشدائد بجرأة واقتدار.
• إن قوة إيمانك تظهَرُ في لحظات الامتحان العسير والابتلاء الشديد، وثباتك على الحق هو ما يشحذ همَّتك ويُقوِّي عزيمتك لتواجهَ تلك اللحظات العسيرة التي تمر بها، وإن ارتباطَك بالله وافتقارك إلى الله في كل أحوالك وشؤونك هو ما يمنحُك طاقة الصبر على الشدائد، والقدرة على الصمود والمواجهة ومجاهدة النفس، مهما طالت رحلة مشقَّتك وطريق كفاحك.
• إن تلك اللُّغة التي تتعلَّمها بالدأب على قراءة القرآن، لن تجد لغةً تحاكيها أو تماثلها في الروعة والجمال، إنه الأدب الخالد الذي أفحَم بفصاحتِه وبلاغته وبيانه لغةَ فطاحل الشعراءِ والأدباء الفصحاء، وإنه الأدب الجامع للحِكَم والمواعظ والآيات المعجزات الباهرات، التي تَهَب نفسك الطُّمأنينة والسكينة، والقدرة على مواجهة ما يَعْتريك من مشاعر التمزُّق والانكسار.
• لا تُخصِّص للناس مساحةً أكبر من المساحة التي يستحقونها في حياتك، بل عاملهم بالتي هي أحسن وأقوم، وعامِلْهم كما تعامل الطيور، فهي في فضائها الرحب تُحلِّق، ومهما ألفتَ الإصغاء إلى تغريدها على غصونك، لا تلبَث أن تُفارِقك وتهاجر أَوْكارها وترحل.
• اعلَمْ أن حياتك لا تتوقَّف عند خط الفراق والوداع، ولا تنتهي الآمال والأحلام والرغبات والمطامح عند محطَّات مَن يرحلون أو ينكثون العهود، بل حياتك تستمر ما شاء الله لها الاستمرار، وتبعث في فصولك وأيامك مشاعر الغبطة والسرور، في وجود مَن كان محبًّا صادق الوعد، وفيًّا لمواثيق الصحبة والإخاء.
• حين تصل إلى مرحلةٍ من الألم العميق والوجع الشديد، وتفقِدُ معها الرغبة في البكاء، وتَركَن إلى الصمت الطويل، فاعلَمْ أن المحنَ قد حصدَتْك بمِنْجَلها الحادِّ، واقتلعت بَراعِمَك الصغيرة، وسنابل زرعِك الفتيِّ، ثم طحنَتْك وغربَلَتْك في غربالها الدقيق، وعجنَتْك وعرَكَتْك، فأخرجَتْ منك إنسانًا صلبًا لا ينكسر أو يَلِين.
• لا تُبالِغ في تقديم الاعتذارات والمبررات لأقوالك وأفعالك وتصرفاتك، ما دمتَ تشعر بالثقة والاعتزاز بذاتِك، والافتخار باختياراتك وقراراتك، وتلزم العدل والإنصاف، وتتحرَّى الصدق والإخلاص، وتراعي رقابة الله في السر والعلن.
• إن الأيام كالصورِ، هي لقطات من مشاهد تنتهي، وفصول تكتب تاريخها على سطور ذاكرتك، لتظلَّ حبيس ذكريات تحملُ بداخلك إحساسًا قد لا يتكرر.
• إن استطعَت أن تغير من نظرتِك، ومنحت عقلك مساحةً أوسع للتفكير والتأمل، وتخليتَ عن تعصبك لأفكارك وآرائك، ونظرتَ في أفكار غيرك، وإن كانت مخالفة لأفكارك، وقارنتَ بين دليلك ودليل غيرك، واخترتَ منها ما يوافقُ الحق والصواب لا ما يوافق هواك، وأصغيتَ إلى صوتِ الآخر كما تُصغِي إلى صوتك - سيتغيَّر حينها تصوُّرُك الضيِّق للمشهد، كما سيتغير معنى القالب والصورة بداخلك، وستشعر أنك ترتدي لكل يومٍ ثوبًا جديدًا، ينسجم مع مجرى الحياة التي تتجدد.