دمـــــــــــاء لا تجــــــــف
للكاتب الكبير أنيس منصور
كان في بلاد الصين فيلسوف,
وكان لهذا الفيلسوف شعار واحد هو :
أن اعيش في سلام مع الناس..
وفي يوم ذهب هذا الفيلسوف الي المقابر.. وكان يجد في زيارة المقابر لذة عقلية..
فنهاية كل الناس هي القبور ينامون فيها متجاورين عراة, ويتركون وحدهم بلا حراسة.
وكان كلما سأله أحد عن سبب زيارته القبور قال :
انما اردت ان أطمئن علي المكان الذي سأبقي فيه الي الأبد.. دون ان أؤذي أحدا
وفي يوم رأي سيدة جميلة قد امسكت مروحتها الكبيرة وراحت تحركها يمينا وشمالا بصورة عصبية ,
فوقف الي جوارها وأحني رأسه
وقال : سيدتي هل تسمحين لي أن أسألك عن شيء ؟
فقالت : تستطيع ..
قال : لماذا أنت جالسة هنا بملابسك الجميلة ,
ومروحتك الفخمة , وكل شيء حولك تراب وعظام وفزع ؟
قالت : لقد مات زوجي , ذلك الأحمق ,
وكان قد اتفق معي قبل موته علي ألا أتزوج إلا إذا جفت دماؤه
وأنا هنا أحاول بهذه المروحة أن أتعجل تجفيف الدماء .
وقد مكث علي هذه الحال عشرة أيام طويلة عريضة , تعبت يدي ,
وكلت أصابعي ونفد صبري ولا تزال هذه الدماء تروح وتجيء في عروقه !!
ومد الفيلسوف يده وقال : سأساعدك ياسيدتي ..
أمسك المروحة واستطاع بقوته السحرية ان يجفف الدماء التي في الجثة
ولم تجد السيدة خيرا من المروحة هدية له علي هذا العمل الكبير الذي انجزه ..
فأعطتها له .. وعادت السيدة الي بيتها .
وعاد الفيلسوف مهموما شقيا بما رأي وما سمع ..
وقابلته زوجته قائلة : ماذا حدث؟ حب جديد .. زوجة جديدة ؟
ايها العجوز ! من أين لك هذه المروحة؟
وما اسم هذه السيدة الغنية ؟
وأي شيء اعجبها فيك ؟
شعرك الابيض أو قامتك القصيرة , أو صلعتك الذابلة أو كلامك الممل الذي يبعث اليأس ..
انطق ياحضرة الفيلسوف وإلا حزمت متاعي وتركت لك بيتك ال**** المظلم
الذي عشت فيه علي أمل أن تتحسن حالتك .. ولم تتحسن ..
ويبدو انها لن تتحسن أبدا !!
ولم يرفع الفيلسوف رأسه عن الأرض ,
وبصوت هامس حزين روي لها القصة ..
وثارت الزوجة , وقالت : هل تظن أن المرأة لا وفاء عندها .. ان المرأة رمز الوفاء ..
انكم يامعشر الرجال لا تعرفون الوفاء .. فأنت مثلا كم امرأة تزوجت ؟ !
إنني الزوجة الرابعة .. ماتت لك ثلاث زوجات وسأموت أنا أيضا ..
ستتزوج بعدي .. هذا هو الوفاء عندكم ؟
وبعد ذلك تتهمون المرأة بالعقوق ونكران الجميل
وتنشرون ذلك في الكتب وتجدون من يصدقكم من الرجال ومن النساء ايضا !!
وسكتت الزوجة ثم عادت تقول : هل تظن انك اذا مت اليوم أو غدا سأتزوج من بعدك , هذا مستحيل ..
سألبس السواد .. سأضرب عن الطعام ولن تجف لي دمعة , ولن اتحدث الي رجل ,
ولن أفتح عيني علي انسان له شارب مهما يكن ماله , ومهما يكن جماله ,
وسأكره كل كلمة فيها حروف كلمة فيلسوف !
وتلفتت الزوجة الي الفيلسوف , فإذا بوجهه قد جف ,
وإذا بالدماء قد هربت وإذا بالفيلسوف ملقي على الارض جثة هامدة خامدة !!
لقد مات ...
وحزنت الزوجة علي زوجها ,
وعلي الحياة الهادئة الآمنة التي عاشتها معه ووضعت جثمانه في كفن ..
ووضعت الكفن في غرفة الاستقبال , واغلقت الباب عليها عشرين يوما .
وفي يوم دق بابها شاب في الثلاثين من عمره .. جميل ,
عليه مظاهر الأناقة والثراء , وأحني رأسه ,
وقال : لقد اتفقت مع الفيلسوف قبل وفاته علي أن اكون تلميذا له ,
وان أقيم في بيته , وان انفذ تعاليم فلسفته تنفيذا كاملا ..
ولكن الموت سبقني الى الفيلسوف العظيم ..
فجئت اشاطرك الحزن , وأشد علي يدك وأدعو السماء ان تهبك السلوان
فلقد كان الفقيد عزيزا علينا أيضا !
وفوجئت الزوجة بإخلاص هذا الشاب , ودعته الى بيتها وقدمت له الطعام
وطالت الجلسة وروي لها الشاب تاريخ حياته , وعذابه في وحدته ..
وكيف انه لم يجد الفتاة التي تحبه وتعطف عليه .. وانه سيظل هكذا وحيدا
إلا إذا شاءت السماء ان تسوق إليه امرأة تحمل له السعادة والحب وراحة البال .
وقدمت زوجة الفيلسوف نفسها .
وقالت : إنني أقبل ان اكون زوجة لك .. انني استطيع أن احقق كل آمالك ..
وأطرق الشاب بعض الوقت .. ثم قال :
وأنا موافق علي الزواج وموعدنا بعد خمسة أيام .
وخرج الشاب وبعد خمسة أيام بعث بخادمه إلى زوجة الفيلسوف ..
ودخل الخادم البيت , فإذا بالورد في كل مكان
والستائر معلقة على النوافذ , والأبسطة تغطي الأرض ,
وفوق هذا كله وقفت زوجة الفيلسوف أنيقة سعيدة كأنها شابة في العشرين من عمرها ..
وتقدم الخادم إليها قائلا : ان سيدي له شروط قبل أن يتم الزفاف ..
قالت الزوجة : سأحقق له كل هذه الشروط ..
فقال الخادم : أول الشروط : أن ينقل جثمان زوجك من البيت , فإن رائحته تفسد العرس !
وثانيا : ان سيدي يريد أن يعرف ان كان زوجك أوصاك بعدم الزواج بعده أم لا !!
وثالثها : إن سيدي لم يستطع أن يأتي معه بالمال الكافي , ويطلب إليك ان تعاونيه في تكاليف الزواج !!
وقالت أرملة الفيلسوف فورا الشرط الاول سأحققه حالا ..
وأمرت خادمها ان ينقل جثمان الفيلسوف إلي مكان قريب من النهر , وان تلقي عليه بعض الأعشاب وغصون الأشجار ..
ومضت تقول : والشرط الثاني أحققه فورا وأعرض عليك وصية زوجي , انه لم يذكر شيئا عن حياتي بعده ..
وأخرجت الوصية من جيبها وقالت : لم يشأ الفيلسوف ان يتحدث عن شيء .. إلا عن الحقل والبيت و***ه الصغير ..
وعادت تقول : والشرط الثالث أسهل الشروط جميعا ..
فقد ترك زوجي مالا وأرضا وبيتا ورصيدا من الحيوانات والغلال وأموالا كثيرة .
وانطلق الخادم يخبر سيده بكل هذا ..
وفي المساء جاءها الشاب وفتحت له الباب
واستقبلته بالبخور والعطور والألوان البهيجة في الستائر والأبسطة
ولم يكد يمد يده إليها حتي سقط على الأرض مغشيا عليه .
وانزعجت الأرملة وصرخت وهي تسأل خادم العريس :
ماذا حدث؟ هل يصاب عادة بمثل هذا الاغماء؟
وماذا نفعل له الآن؟
هل نستدعي الطبيب؟
هل ننثر عليه ماء الورد؟
هل أحرق حوله البخور؟
ووقف الخادم يقول : لا شيء من هذا ياسيدتي ..
ان علاجه معروف , وهو أمر سهل علينا في بلادنا ولكنه في هذه البلاد صعب يستحيل تحقيقه ..
فقالت الزوجة : قل لي ما هو العلاج؟ .
وقال الخادم : كان هذا العلاج سهلا في بلادنا ..
فإن والده العظيم كان يأتي به في دقيقة واحدة أما في هذه البلاد فليس لنا سلطان ولا نفود
إننا غرباء ياسيدتي الأرملة الصابرة والعروس الفاتنة !
واتجهت الزوجة الي الخادم وامسكته من ملابسه
وهي تقول له : تكلم أيها الجبان .. تكلم أيها البليد ..
ما هو العلاج؟ تكلم وإلا قتلتك !
وقال الخادم : علاجه ان نحصل علي مخ إنسان مات منذ أربعين يوما ..
ثم نضع هذا المخ في النبيذ ونقدمه للعريس شرابا دافئا .. هذا هو العلاج ..
أرأيت كيف أنه علاج صعب في هذه البلاد؟
لقد كان والده العظيم يحصل علي ذلك بسهولة ..
وقالت الزوجة : عندي هذا العلاج ..
لقد مات زوجي منذ 39 يوما هل ينفع زوجي علاجا للأمير؟
وأجاب الخادم : من المؤكد أن هذا المخ ينفع في العلاج !!
وانطلقت الزوجة الي حيث يتمدد جثمان زوجها .. ونقلت النعش الي البيت ..
وامسكت سكينا وراحت تدق به أخشاب النعش ..
ولم تكد ترفع أحد الالواح حتي وجدت زوجها جالسا ينظر إليها ..
فصرخت وتجمدت في مكانها !!
فقال لها الفيلسوف : لماذا جئت بي إلي هنا؟
قالت : لقد سمعت أصواتا في داخل النعش ..
فقلت لنفسي ربما عادت إليه الروح , والروح كثيرا ما تعود إلي أجساد الطيبين من الناس ..
وقال الفيلسوف :
وما هذه الملابس الجديدة التي تلبسينها؟
فقالت : أردت أن أكون جميلة في عينيك بعد هذه الأيام الطويلة التي فارقتني فيها ..
أردت أن يكون أول شيء تقع عليه عيناك جميلا ..
وسألها الفيلسوف : وهذه الشموع ما سببها؟
فأجابت الزوجة : انما أردت أن أزف نفسي إليك من جديد أردت أن نكون عروسين للمرة الثانية ..
والزواج السعيد هو الذي تتجدد فيه شهور العسل .. واليوم هو أول شهر العسل الثاني في حياتنا ..
وسألها الفيلسوف : ولكن لماذا لم تتركي نعشي في الغرفة كما أوصيتك؟ ..
ولم تعرف الزوجة ماذا تقول ..
ونهض الفيلسوف وأطفأ الشموع واحدة بعد واحدة وترك
شمعة واحدة , وأشار الي زوجته أن تنظر يمينها ..
ونظرت الزوجة فوجدت الشاب وخادمه ..
وتطلعت الي جهة اليسار , فلم تجد زوجها ..
ثم التفتت إلي اليمين فوجدت زوجها .. وتطلعت
الي اليسار فلم تجد الشاب ولا خادمه ..
وادركت الزوجة ان الزوج والشاب لا يجتمعان , فإما الزوج وإما الشاب ..
وظلت الزوجة تدير رقبتها يمينا وشمالا حتي داخت .. وتوقفت فجأة ..
وانطلقت الي غرفتها وامسكت حبلا طويلا وشنقت نفسها به ..
أما الفيلسوف فقد أحرق البيت كله ..
وراح يعيش بين المقابر ,
وكلما رأي سيدة معها مروحة راح يهز رأسه ويضحك
ويهمس بصوت منخفض : لن يمضي وقت طويل حتي يجف دم هذا الميت..
ويجف دم هذه السيدة أيضا أمام مروحة سيدة أخري ..
إننا بدمائنا نجفف دماء الآخرين .. ولا نهاية لدماء الآخرين !