"كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا"
لم تكن هذه أبدا هي العلة المتوقعة لذلك المطلب الذي طلبه نبي الله موسى من ربه حين أمره أن يذهب إلى فرعون، ذلك المطلب الذي سبقته أمور تتناسب ظاهريا مع تلك المهمة العظيمة التي كُلف بها.
{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]
{وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه: 26]
{ وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه: 27-28]
كل ذلك متوقع وواضح، فهو ذاهب لدعوة أحد أقسى الطغاة الذين عرفتهم البشرية؛ إن لم يكن الأقسى على الإطلاق؛ فمن الطبيعي أن يطلب شرح الصدر لهذه المهمة؛ وتيسير الأمر وطلاقة اللسان؛ وكل ذلك علته مواضحة وهدفه ظاهر، بيان الحجة ووضوح الدعوة.
ثم يأتي المطلب الأخير؛ المؤازرة والعون والسند؛ { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي؛ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي؛ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29-32].
طبيعي أن يطلب العون على هذه المهمة الثقيلة؛ ويبتغي من يشد من أزره؛ وليس من أحد أنسب لهذه المهمة من أخيه المحب المخلص الذي سيقف معه في مواجهة الطاغية.
وهنا تأتي المفاجأة... {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً؛ وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} [طه: 33-34].
هذا هو المقصد الأسمى وتلك هي الغاية العظمى؛ التسبيح والذكر؛ لأجل ذلك طلب موسى أن يبعث الله معه أخاه هارون وزيرا؛ ليس يتحدث هنا عن عون مادي أو دعم ملموس ولكنها الإعانة على التسبيح والذكر! والعجيب أن التسبيح ذكر فلماذا التفصيل؟ إجابة هذا السؤال تظهر حقيقة تلك العلة وذلك المقصد الذي نغفل كثيرا عنه حين نتحدث عن الذكر أو نتصوره..
الذكر في حقيقة الأمر معنى أشمل كثيرا من تمتمات غامضة وهمسات غير مفهومة يحرك بها البعض شفاههم أثناء مرور أصابعهم على حبات المسبحة أو يضغطون رز عداد التسبيح الإلكتروني بشكل روتيني لا يحمل باطنه كثيرا مما يبدو على ظاهره!
الذكر حياة؛ سلوك ومنهاج ومعاملة؛ حالة متكاملة يتلبس بها الذاكر في سائر أموره وأحواله؛ فدعوته ذكر؛ وصدعه بالحق ذكر؛ وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ذكر؛ وسلوكه وأخلاقه ومعاملاته يحدوها الذكر؛ ويحركها الذكر؛ ويضبطها الذكر.
إن هذا المقصد الذي أعلنه نبي الله موسى عليه السلام في سياق الإقبال على مواجهة فرعون بدعوته لهو أبلغ دليل على عموم وشمول معنى الذكر لكل ما سبق؛ وهذا الفهم لم يتأت لموسى في تلك اللحظة وحسب وإنما سبقه تأصيل رباني لهذه القيمة حتى تشربها قلب موسى.
{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14]؛ هكذا كان أول أمر تعبدي يتلقاه موسى بعد أن كلمه ربه وعرفه بنفسه في الوادي المقدس بصحراء سيناء؛ {فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}؛ هكذا يبين له مقصد العبادة وغاية الصلاة منذ البداية.
{لِذِكْرِي}؛ ويحسن موسى تلقي الأمر ويدرك قيمة هذا المقصد وشموله؛ فيطلب من الله من يعينه عليه بخصوصه "كي نسبحك" وعمومه "ونذكرك"..
ثم يعضد الله ذلك الفهم بمزيد من التأكيد على الأمر؛ فيقول بعد أن يحقق مطلبه ويبعث معه أخاه: {اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه:42]؛ لا تكلا ولا تملا ولا تتوانيا عن ذكري حتى في هذا الموقف العصيب
في مواجهة فرعون، وفي مواجهة كل صعاب هذه الدنيا وهمومها ما من زاد مثل الذكر، لذلك شرع الله الذكر في أحلك المواقف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، ولذلك أيضا جعل الذكر مقترنا بأهم العبادات.
فالصلاة إنما شرعت لذكر الله وهو أكبر ما فيها {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت:45] .
والصيام جعل التكبير من علله ومقاصده {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة من الآية:185].
والحج كله يتخلله الذكر والنسك كذلك {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34].
وعلى هذا جل المواضع القرآنية الكثيرة التي وردت فيها تلك القيمة العظمى والمقصد الأسمى. حتى عند ارتكاب المعصية بل الفاحشة؛ مطلوب بعدها ألا يتمادى المؤمن في نسيانه وغفلته؛ بل يسارع إلى التوبة والاستغفار وبداية ذلك أيضا تكون بالذكر: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:136].
أوبعد ذلك كله يتصور البعض أن الذكر قاصر على بعض حركات الشفاة التي لا تجاوز الحناجر ولا تمس القلوب، أو ينعكس صداها على الجوارح والسلوكيات والمعاملات؟! هيهات هيهات... الذكر قضية أعظم من ذلك كثيرا وأشمل.
الذكر حياة كاملة؛ حين تدرك هذا ويستقر في ذهنك أن الذكر مهمة حياتك وزاد قلبك وغذاء روحك الحقيقي، حين تفهم معاني الأذكار والقيم الروحية والتربوية والإيمانية والعقدية التي تبثها تلك الكلمات في نفسك وترسخها في وجدانك، حين تعرف حقيقة الذكر وتستشعر قيمته؛ بأن تعرف من تذكره وتثني عليه وتناجيه وتطرح حوائجك وهمومك بين يديه مستحضرا عظمته ومتذكرا جليل أسمائه وجميل صفاته، حين تدرك ببساطة أن جوهر الذكر ببساطة وعامية مباشرة "إنك تفضل فاكره ولا تنساه أبدا".
حينئذ فقط ستفهم قول نبيك صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الذي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ» (رواه البخاري)، وعندها سيكون مقصدك الأسمى الذي تسعى بكل ما أوتيت لتحقيقه، وشعارك الأعظم في تلك الحياة هو ذلك الشعار الذي رفعه موسى عليه السلام والمقصد الذي طبقه عمليا بكل حذافيره، "كي نسبحك كثيرا".