قال تعالى في كتابه العزيز: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، وفي آية ثانية: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]، وفي آية ثالثة: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن:3]، ذلك هو المصور وتلك هي الصورة.
والله هو الذي أنعم على الخلق بجمال الصورة، وقد فتن بعض المجتمعات بالصور رسميًا ونحتًا وعُبدت من دون الله، ومن هنا كانت الوثنية والصنمية التي حاربها الإسلام، والتي جاءت بها الصورة، فعبد بها الناس المخلوق ونسوا الخالق بعد أن فتنوا بها، ومنها كانت عبادة
الصورة -الأيقونة- وتقديسها، في
تاريخ الدولة الرومانية، ومن هنا كانت علة التحريم للصورة في الإسلام، وهذه هي
الصورة في مراحل حياة الإنسان على هذه الأرض، وتلك هي قصتها في التاريخ الإنساني.
الصورة وتعريفها:
الصورة في تعريفها اصطلاحًا: هي مجموعة من الأفكار تشكلت في عقل راسم الصورة، وهو المعروف بالعقل الأيقوني المتعلق بالتفكير بالصورة، من خلال الارتباط النظري بالصورة التي هي من عطاء العقل الأيقوني، والتفكير في
الصورة هو ما يعرف بالتفكير البصري، والتفكير البصري كما عرَّفه (أونهايم): محاولة فهم العالم من خلال لغة الشكل والصورة، والتفكير في
الصورة يرتبط بالتفكير في الخيال الذي هو مصدر الإبداع والعطاء.
الصورة في
تاريخ الحضارة الإنسانية:
ارتبط وجود
الصورة على الأرض بوجود الإنسان عليها، وذلك من
تاريخ وجوده عليها ساكنًا في الكهوف، إلى أن انتقل إلى عصر التمدّن الاجتماعي في حياته فيما بعد حياة الكهوف، فقد رسم الإنسان القديم
الصورة على جدران الكهوف، وقد جاءت هذه
الصورة التي رسمها لتمثل حياته البيئية التي عاشها، فرسم الحيوانات التي عاشت بقربه، وقد استأنس بعضها. ومع تتابع العصور الإنسانية وتمدنها الحضاري، والاجتماعي فقد تطور مع هذا التمدن فن التصوير، على خلاف ما عرفه الإنسان القديم، وذلك من خلال الإبداع فيه: سواء كان رسمًا أو نحتًا.
وقد نالت
الصورة الاهتمام والمكانة في المجتمعات الإنسانية، وخاصة في التاريخ الإنساني القديم فهي عند فلاسفة الصين كما يقول المثل الصيني: "
الصورة بألف كلمة"، وعند فلاسفة اليونان: "
الصورة من عطاء فكر راسم الصورة"، وعصر اليوم الذي نعيشه هو عصر الصورة، كما وصفه بذلك كثير من النقاد والعلماء. والصورة اليوم ترتبط بمجال الوسائط في علوم التربية والتعليم والأخلاق والدين والخيال والإبداع، وهو ما عرفه ماضي الحضارة الإسلامية في علوم الطب والصيدلة، وحفظها لنا موروث هذه الحضارة في مخطوطاته النفيسة التي ترجع إلى أكثر من ثمانية قرون خلت، فهذا الناقد الفرنسي رولات بارت يقول: إن العصر الذي نعيشه هو عصر حضارة الصورة، وذلك عندما سادت فيه -أي: العصر- ثقافة
الصورة العينية -أي: المشاهدة- على ثقافة القراءة والكتابة، وذلك من خلال واقع
الصورة في حضورها الجارف في حياة الإنسان الحديث، وخاصة بعد أن تعددت وكثرت وسائطها وخاصة منها الإعلامية، ولهذا فالصورة اليوم على خلاف المثل الصيني فهي بمليون كلمة وتزيد، وليست بألف كلمة، فثقافة
الصورة ارتبطت بـ
التفكير البصري، الذي ساد عالم ثقافات اليوم، حتى عرف هذا العصر بـ
عصر الصورة؛ فما قصة نشأة
الصورة في
تاريخ حضارة الإنسان؟
الصورة في حضارات العالم القديم:
أثرى موروث العالم القديم متاحف العالم بالصورة سواء كان رسمًا أو نحتًا؛ لأنها كانت الأسبق في عطاءاته، وأقرب
الحضارات الإنسانية صلة بهذا الموروث هو ما يعود في تاريخه إلى خمسة آلاف سنة خلت؛ كحضارات بلاد الرافدين، والحضارة اليونانية ثم البيزنطية ثم الرومانية، وكذلك حضارة مصر الفرعونية وبلاد العرب والصين، فالعرب قبل الإسلام عرفوا فن
الصورة رسمًا ونحتًا، وآثار نجران وعدد كبير من مناطق الجزيرة العربية دليل على ذلك، ثم جاء بعد هذا العصر العصر الوسيط الذي شهد مولد دولة الإسلام، فعرف هذا العصر بعصر الإيمان، وفي هذا العصر عرفت
الصورة شكلًا جماليًا وإبداعيًا، فبيزنطة وريثة الحضارة اليونانية ووريثتها الدولة الرومية قد نالت
الصورة في عهدهما الاهتمام من قبل الفنانين الرومان، وذلك قبل اعتناق الرومان النصرانية وبعد اعتناقهم إياها زاد الاهتمام في الصورة، وخاصة منها ما كان معنيًا بصورة السيد المسيح وأمه عليهما السلام.
وفي هذا المجتمع خصوصًا كان للصورة شأن آخر بين الحل والتحريم، فقد سادت فيه عبادة
الصورة -الأيقونة- عندما اعتقدت الإمبراطورية الرومانية العقيدة النصرانية، وقد أصابها -أي النصرانية- شيء من الوثنية التي ورثها الروم عن بيزنطة والحضارة اليونانية، فعن هذه
الصورة كان إمام المعتزلة القاضي عبدالجبار يقول: لقد ترومت النصرانية ولم يتنصر الروم، فقد رخص المنصرون من قساوسة النصارى لأبناء المجتمع الرومي تحليل التصوير رسمًا ونحتًا، ومع التحليل هذا انتشر في المجتمع الرومي مسألة عبادة
الآيقونات، فحظيت الكنيسة بالمكانة على حساب الإمبراطور، فمضى الحكام الرومان في العمل على تحريم الصور الدينية، الخاصة بالسيد المسيح وأمه، وعرف هذا العصر بالعصر
اللا أيقوني، أو عصر التحريم، وقد طال زمانه قرابة مائة وثلاثين سنة، وذلك من سنة 730 - 869م، وكانت قد ظهرت في هذه الأثناء جماعة الأريسيين القائلة بوحدة طبيعة السيد المسيح عليه السلام، والقول ببشريته، وكانوا يحاربون تصويره.
وبعد أن غالى الشعب الروماني بتقديس القساوسة والأيقونات، خرجت عن الصدد والسبيل المرسوم، وأوشكت الحالة هذه أن تفضي بالمجتمع الروماني إلى الصنمية أو عبادة الأصنام التي كان قد ورثها عن بيزنطة قبل اعتناقه النصرانية.
وقد بدأت حرب
الأيقونات وتحطيمها على يد الإمبراطور ليون الثالث، الذي أصدر أول إقراراته سنة 730م. ويحمل كثير من الكُتّاب الغربيين على هذه الحرب، على أنها كانت بمنزلة عدوى انتقلت إلى المجتمع الروماني من المجتمع الإسلامي الذي حارب الصور التشخيصية والوثنية، ولم تتوقف هذه الحرب إلا بعد أن انعقد المجمع المسكوني النيفاوي السابع سنة 869م، وقد شرّع هذا المجمع تحليل
الصورة الدينية وعبادتها، ومنذ هذا التاريخ وحتى عصر النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر للميلاد بالغ الرسامون المصورون في تجسيد السيد المسيح وأمه رسمًا ونحتًا، وكان للأيقونة في هذا المجتمع شأن آخر، لم يعرفه غيرها من المجتمعات الدينية الأخرى، بعد أن ساد فيه الوثنية والصنمية من خلال الصورة.
فكل عصر من هذه العصور كان للصورة فيه شأن غير الذي سبقه وخلفه، ويأتي في مقدمة هذه العصور العصر الأموي، الذي عرف كثيرًا من الجدل والنقد حول قضية (قصر عمرة)، فقد نسب بناءه كثير من المستشرقين إلى العهد الأموي؛ بقصد النيل منه، وذلك لما احتواه من صور نسائية شبه عارية مرسومة على جدران الحمام التي فيه، وكان قد اكتشف هذا القصر الرحالة (موزيل Musil) في البادية السورية سنة 1898م، ونسب هذا المبنى إلى الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك، (705- 715م) فكيف لمن عُرف عنه بناء المساجد أن يعمل على بناء قصر مثل هذا فيه ما فيه من المحرمات لصور تشخيصية؟! فقد وجد فيه كذلك صور لحيوانات وكتابات باللغة الإغريقية والآرامية العربية، إضافة إلى صور ملوك أعاجم، فمعظم هذه الصور والآثار أشارت بوضوح إلى أن هذا المبنى فيما احتواه إنما يعود إلى العصر الروماني، وقد جاء قصد المستشرقين في نسبة هذا القصر إلى الوليد بقصد الإساءة له ولدولته، ومع الأسف الشديد فقد ذهب بعض من أبناء المسلمين إلى تصديق ما رواه المؤرخون والمستشرقون الغربيون حول نسبة هذا القصر للوليد بن عبدالملك، فالوليد بن عبدالملك هو الذي بنى المسجد النبوي، والمسجد الأموي، والمسجد الأقصى، وهو الذي وضع المنائر للمساجد، وعهده عهد خير وبركة على المسلمين، كما أشار الأستاذ صالح الشامي في كتابه النفيس (الفن الإسلامي.. التزام وابتداع) من شهادة ابن الأثير فيه، ثم يمضي الأستاذ صالح الشامي في حديثه إلى القول: إن نسبة هذه الصور للأمويين إنما تعني في الدلالة إلى عدم التزامهم في شريعة الإسلام في التحريم والتحليل، وبيّن بأن هذه القصور لم تكن إلا قصورًا رومانية، وقد أيّد كلامه بشهادة عالم الآثار الإسلامية الأستاذ أنور الرفاعي، عندما قال في كتابه (تاريخ الفن عند العرب والمسلمين)؛ وفي العهد الأموي استعمل الخلفاء والأمراء بعض القصور الرومانية الموجودة في دمشق وغيرها، كما بنو قصورًا كثيرة.
وأقول -أي: كاتب الدراسة-: ودليلًا على عدم صحة هذه الرسوم في نسبها الأموي فهي لم تتكرر كرسوم في أمكنة أخرى من القصور الأموية، مع كثرة هذه القصور في البوادي والمدن الشامية.
وقد سار العصر العباسي على النهج الأموي في تحريم تزيين القصور بالصور الآدمية أو الحيوانية. وقد نُسب إلى الخليفة المعتصم أنه بنى قصرًا زينه برسوم آدمية وحيوانية، ولكن النقاد أخضعوه للنقد الموضوعي والمعني بتدين المعتصم، نافين بذلك صحة هذه الفرية على خليفة مثل المعتصم، ومن هذا يتبين لنا أن العصر العباسي لم تشهد قصور خلفائه صورًا تشخيصية، فهي إن لم تكن من الخليفة فهي من الفنان المسلم، الذي كان يستلهم بفنه الرؤية الإسلامية التي رسمت ووضعت الأطر والأسس الصحيحة لهذا الفن، والتي جعلت الفنان المسلم يبتعد في فنه عن أسلوب المحاكاة في الفن التصويري الذي افتتن فيه الفنانون من غير المسلمين، فابتعدوا عن الخالق بتصوير المخلوق.