الإسلام دين السلام والسَّلم
لقد حفلت نصوص القرآن ومواقف السيرة النبوية بما يدلُّ على أن الإسلام يُؤْثِرُ دائما السلام، ومن أدلَّة ذلك أنَّ القرآن الكريم أورد كلمة السلم بمشتقاتها مائة وأربعين مرَّة، في حين ذُكِرَت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط! والفرق بين العددين هو الفرق بين نظرة الإسلام إلى كلا الأمرين، ومن ثَمَّ في ميل رسول الله
إلى كلٍّ منهما؛ ففي معظم أحوال رسول الله
كان يبحث عن الطرق السلمية والهادئة للتعامل مع المخالفين له، ويحرص على تجنُّب الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ويؤكِّد هذا النظرة العديد من الآيات التي أمرت بالسَّلْم مع غير المسلمين إن أبدى هؤلاء الاستعداد والميل للصلح والسلام؛ فيقول الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]، وهذه الآية الكريمة من كتاب الله
تبرهن بشكل قاطع على حُبِّ المسلمين وإيثارهم للسلم متى مال الأعداء إليه، ما لم يكن من وراء هذا الأمر ضياع حقوقٍ للمسلمين أو سلب لإرادتهم؛ لذلك يرى الشيخ محمود شلتوت[1] أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيِّئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامَّة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية[2].
ولهذا كله كان رسول الله
يعتبر السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو
فيقول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ[3] فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ"[4].
كما كان رسول الله
يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه
: "أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا: حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[5].
سمات تعامل رسول الله مع المشركين في مكة
تعامل رسول الله
مع
المشركين في مكة بطريقة فذَّة فريدة، فكان رسول الله
يبذل كل غالٍ ونفيس في سبيل إنقاذهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، رغم عنادهم وقسوتهم في التعامل معه
ومع من أسلم من أصحابه، إلاَّ أنه كان مصرًّا على دعوتهم إلى الإسلام الذي يُحَقِّق لهم الفلاح في الدنيا والآخرة.
أولاً: دعاؤه لهم بالهداية
وقد اتَّسم
تعامل رسول الله
مع
المشركين في مكة بعدَّة سمات، أوَّلها دعاؤه لهم بالهداية؛ فكان رسول الله
يخصُّ بدعائه كل المشركين، بل ومن ناصبه العداء كأبي جهل وعمر بن الخطاب قبل إسلامه، وكانا من ألدِّ وأشهر وأقوى أعداء رسول الله
، فكان يدعو ويقول: "اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ: بِأَبِي جَهْلٍ، أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. فَكَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ"[6].
ثانيًا: سمة التبشير
كما اتسم أيضًا بسمة التبشير؛ فحياة رسول الله
من أقوال وأفعال مبنية على التبشير، ولم يكن يخرج عن هذا الطبع على الرغم من قسوة
المشركين عليه؛ فعن ربيعة بن عباد الديلي -وكان جاهليًّا ثم أسلم- قال: "رأيت رسول الله
بَصْرَ عيني بسوق ذي المجاز يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ تُفْلِحُوا". ويدخل في فجاجها[7] والناس مُتَقَصِّفُون[8] عليه، فما رأيتُ أحدًا يقول شيئًا، وهو لا يسكت، يقول: "أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ؛ تُفْلِحُوا". إلاَّ أن وراءه رجلاً أحول وَضِيَء الوجه ذا غَدِيرَتَين، يقول: إنه صابئ كاذب. فقلتُ: من هذا؟ قالوا: محمد بن عبد الله، وهو يذكر النبوة. قلتُ: من هذا الذي يُكَذِّبه؟ قالوا: عمُّه أبو لهب[9].
ولم يخرج رسول الله
عن أدبه في المعاملة حتى مع السفاهة الواضحة لأبي لهب، وظلَّ على منهج التبشير يدعو الناس إلى الفلاح والنجاة، بل إنه كان يُبَشِّرُهم بمُلْكِ الدنيا قبل نعيم الآخرة إنْ هم آمنوا بالله ولم يشركوا به شيئًا؛ قال عبد الله بن عباس
: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي
، وعند أبي طالب مجلسُ رجلٍ، فقام أبو جهل كي يمنعه، وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يابن أخي، ما تُريد من قومك؟ قال
:"إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا الْعَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ الْعَجَمُ الْجِزْيَةَ". قال: كلمة واحدة؟! قال
: "كَلِمَةً وَاحِدَةً". قال: "يَا عَمِّ، قُولُوا: لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ". فقالوا: إلهًا واحدًا؟! ما سمعنا بهذا في الملَّة الآخرة[10]، إن هذا إلاَّ اختلاق[11]. قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 1، 2] إلى قوله: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 7][12]. فلم يَعْبَسْ رسول الله
في وجوهم، ولم يقاطع مجالسهم، ولم ينظر لهم نظرة المتكبِّر المُعْرِض، إنما تلطَّف وتودَّد إليهم، ويبشِّرهم بمُلْكِ الدنيا ونعيم الآخرة.
ثالثًا: حوار رسول الله مع المشركين
أمَّا السمة الثالثة فهي الحوار معهم، امتثالاً للمنهج القرآني الذي ورد في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ * قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 24-26][13]، فرسول الله
يعلم على وجه اليقين أنه على الحقِّ والهدى، ومع ذلك أمره الله في تحاوره مع
المشركين أن يقول لهم: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ}، إنها الأرضية المشتركة التي نقف عليها، أحدنا على حقٍّ والآخر على باطل، فلنتناقش ولنتحاور حتى نصل إلى الحقيقة الغائبة؛ إنها طريقة الحوار المثلى، وغاية الأدب، ومنتهى سموِّ الأخلاق، ثم يُعَلِّمه الله أن يخاطبهم في أدب جمٍّ فيقول لهم: {قُلْ لاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ}!
فقد أُمر
الرسول بأن ينسب (الجُرْم) إلى نفسه، وهو عادة يأتي في الأخطاء والزَّلاِّت، وينسب لفظ (العمل) لهم، وهو يحتمل الصلاح أو الفساد، ثم يُسَلِّم الأمر كله بعد ذلك لله
، فيقول: إن الله
سيجمع بيننا جميعًا يوم القيامة، ويحكم بيننا بالحقِّ الذي يراه، فنعرف ساعتها من الذي أصاب ومن الذي أخطأ.
وهذه - ولا شكَّ - أرقى وسيلة ممكنة من وسائل التحاور، لا تحمل أي صورة من صور العصبية والتَّزمُّت، إنما فيها كل الأدب، وكل التقدير للطرف الآخر.
وإنَّ حَصْر مثل هذه الآيات يطول ويصعب لكثرتها، وما يهمُّنَا هنا هو تمثُّل
الرسول لهذه الآيات وتلك التوجيهات الربانية، تلك التي تُعَبِّرُ عن منهجه وأسلوبه
العظيم الراقي في تعامله مع
المشركين في مكة.
رابعًا: صبر رسول الله
أمَّا السمة الرابعة فهي صبره
على إيذاء قريش له، فعن عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو عن أشدِّ ما صنع المشركون برسول الله r، قال: رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي
وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقًا شديدًا، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28][14].
كما رموه بالسحر والجنون وهو منه براء إمعانًا في تسفيه ما جاء به، وهو الحقُّ من رب العالمين، فعن ابن عباس أنَّ ضمادًا قدم مكة، وكان من أزد شنوءة، وكان يرقى من هذه الرِّيح[15]، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إنَّ محمَّدًا مجنونٌ. فقال: لو أنِّي رأيت هذا الرجل لعلَّ الله يشفيه على يديَّ. قال: فلقيه، فقال: يا محمد، إنِّي أرقي من هذه الرِّيح، وإنَّ الله يشفي على يدي مَنْ شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله
: "إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ". قال: فقال: أعد عليَّ كلماتك هؤلاء. فأعادهنَّ عليه رسول الله r ثلاث مرَّاتٍ، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السَّحرة، وقول الشُّعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر[16]. قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام. قال: فبايعه...[17].
كما اشتدَّ الأذى على رسول الله
بعد موت عمِّه أبي طالب، فيروي ابن هشام قائلاً: "فلما مات أبو طالبٍ نالت قريشٌ من رسول الله
من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالبٍ، حتى اعترضه سفيهٌ من سفهاء قريشٍ، فنثر على رأسه ترابًا... فلمَّا دخل رسول الله
بيته والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول الله
يقول لها: "لا تَبْكِي يَا بُنَيَّةِ؛ فَإِنَّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاكِ"[18].
ورغم هذا الإيذاء الذي سقنا طرفًا منه إلاَّ أن النبي r لم يمنع التعامل معهم، بل ظلَّ على حُسْن المعاملة من بيع وشراء، ودليلنا على ذلك ما فعلته قريش مع المسلمين في العام السابع من البعثة[19]، عندما فرضت عليهم حصارًا اقتصاديًّا ظالمًا.
بل وأكثر من ذلك حيث حفظ لهم أماناتهم التي أودعوها عنده
، وَرَدَّها كاملة إليهم، رغم تآمرهم على قتله ليلة الهجرة؛ حيث ترك رسول الله
خلفه علي بن أبي طالب لِرَدِّها[20].
ومن فرط رحمته وحرصه عليهم لم يَدْعُ الله عليهم بالهلاك، فعندما قال له ملك الجبال: إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين[21]. قال رسول الله
: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"[22].
هكذا كان
تعامل رسول الله
مع مشركي قريش تعاملاً قائمًا على الرحمة والشفقة، ودليلاً أكيدًا على نبوَّته؛ لأن رسول الله
لم يتعامل مع مشركي قريش إلاَّ من منطلق المنهج الرباني الذي استقاه من القرآن الكريم.