أما الذي عليه المرام، والذي يتوقف عنده كل السائرين إلى حضرة الملك العلام، وعليه تبنى المقامات الإيمانية، وعليه تتوقف العطاءات من رب البرية، فهذا يتجلى في أخلاقه صلى الله عليه وسلم التي خُصَّ بها دون النبيين والملائكة المقربين والخلق أجمعين:
فاق النبيين في خلق وفي خُلُق فلم يدانوه في علم ولا كرم
ولذا فإني أضع كما وضح لي من مناهج الصالحين للأحبة ميزان يزنون به أنفسهم ليعرفون مكانتهم عند الله، ويزنون به غيرهم ليعلموا حاله ومكانه عند الله، هذا الميزان هو التخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم.
الناس جميعاً يهتمون بالعبادات الظاهرية الشكلية، والله ينظر إلى طهارة القلوب وخلوها من الشهوات والحظوظ والأهواء والدنيا الدنية، وميزان العطاء، وميزان الخَلْق ليس فيه كثير غَنَاء، لأنه ميزان بحسب الهوى، فالمريد الصادق دائماً ينظر إلى خُلقه، ويزنه بخُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أبت نفسه أن يكون على كمال أخلاق الحبيب فليعلم علم اليقين أنه إذا أصر على ذلك ليس له في مقامات القرب نصيب، كيف يتعصب لنفسه ولا يتعصب للحَبيب الذي صنعه الله على عينه وأمرنا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم؟ فيزن الإنسان نفسه بذلك.
من جملة هذه الموازين ما ورد عن وصف الحَبيب صلى الله عليه وسلم وأخلاقه عن أصحابه المباركين، لنزن أنفسنا بها، فهذا ميزان ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، حيث تقول: {لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلا مُتَفَحِّشًا، وَلا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ}{1}
وأخرج الزبيدي في اتحاف السادة المتقين والمتقي الهندي في كنز العمال عنه صلى الله عليه وسلم: "كان صلى الله عليه وسلم يعطي كل من جلس إليه نصيبه من وجهه، حتى كأن مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجهه للجالس إليه، ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواضع وأمانة، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، وكان صلى الله عليه وسلم لا يواجه أحداً في وجهه بشيء يكرهه".
إذا كان معي شيء من الفظاظة لا بد أن أعالجها لأنه لم يكن صلى الله عليه وسلم فظاً، ولا غليظ القلب، ولا صخاب في الأسواق، فلم يكن صوته عال بل هاديء ورزين، فمن كان صوته عالٍ لا بد أن يراجع نفسه، هل صوتك العالي مثل رسول الله أم حسب هواك؟ راجع نفسك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يجزي بالسيئة السيئة، وهذا دليل على الكمال ولكنه صلى الله عليه وسلم يعفو ويصفح.
فإن الإنسان إذا لم يصل إلى درجات الكمال يحمل ضغائن من هذا، ويحمل حقداً على هذا، ويريد أن يُفعِّل ذلك بأن يخرجه من حيز النفس إلى حيز الفعل. لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يَخزُن في نفسه إلا الخير كل الخير، لا يسمح للشر ولا من اقترب منه أو لاذ به أن يدخل إلى صدره أو إلى قلبه، لأن الله جعل قلبه قلب سليم، فلا يدخله سوء الظن بأحد من الخلق، فإذا كان عندي سوء ظن أراجع هذه الخصلة، ممن ورثتها؟ وبمن أتأسى في فعلها؟.
ولم يكن صلى الله عليه وسلم يتغيظ أو يغتاظ لنفسه قط، حتى أن هذه الأوصاف والنعوت جاء نعته بها في الكتب السماوية السابقة، فقد قيل لسيدنا عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وكان قد اطلع على التوراة والإنجيل والكتب السماوية السابقة: بم وُصف رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل؟ فقال رضي الله عنه:
{أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِصِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَحِرْزًا لِلأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّلَ، لَسْتَ بِفَظٍّ وَلا غَلِيظٍ، وَلا صَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلا يَدْفَعُ السَّيِّئَةَ بِالسَّيِّئَةِ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا}{2}
موازين العارفين والصادقين وطالبي القرب من حضرة رب العالمين، هي الموازين الإلهية التي يقول الله فيها لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}الأحزاب21
وهذا جهاد أهل المشاهدات.
أهل المكابدات يجاهدون للحصول على الحسنات والدرجات في الجنات، لكن أهل المشاهدات يجاهدون في التخلق بأخلاق حضرته ليصلوا إلى كمال القرب من رب العالمين في أعلى المواجهات، وفي أسنى التجليات، وفي أعظم المكاشفات ميراثاً لسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ولذلك ينبغي على طلاب أهل هذا المقام أن يعيشوا بالكلية في أحوال حضرة النبي في هذا الباب، ويتشبهوا به كمال التشبه في كل أحواله مع الخلق، عسى الله أن ينقلهم للتشبه به في باطنه مع الحق عز وجل