ما فعل كعب بن مالك؟
بما لم يَدُرْ بخَلَدِ كعب بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم - وهو قائد الجيش السائر إلى الشمال من المدينة النبوية لغزو الروم - سيفقده ويسأل عنه، أو على الأقل لن يترتب على فقده ما سيؤدي في المستقبل القريب إلى نزول آيات تُتلى إلى يوم القيامة؛ لتحكي للأجيال المسلمة الأثرَ المترتب على مخالفة ولي الأمر، والمعاناة التي سيمر بها المخالِف. ((ما فعل كعب بن مالك؟)) قالها قائدُ الجيش صلى الله عليه وسلم، وهي عبارة بليغة مختصرة، ولكن لها مراميها البعيدة التي ستفتح بابًا واسعًا لأحداث جسيمة ستحصل في المستقبل، ولن تنتهي هذه الأحداث إلا بنزول الوحي من السماء بآيات من سورة التوبة، تصوِّر الواقعة أبلغ تصوير، يقصر دونه أي تصوير آخر، فيما لو حاول الولوج إلى ثناياها لتصويرها بأقصى ما يمكنه من درجات البلاغة.
حتى عندما تكلم أحد الصحابة مجيبًا عن سؤال قائد الجيش، وانبرى معاذ بن جبل مدافعًا عن كعب، لم يُعقِّب قائد الجيش على كلا المتكلمَين، وإنما سكت سكوتَ مَن لا يتكلم في مثل هذه المواقف إلا حين يكون للكلام محله.
وكعب لم يتخلف التخلف الذي يؤاخذ عليه إلا في هذه الغزوة، مع أنه لم يكن أقوى، ولا أيسر منه حين تخلف عنها، وهي غزوة كان يحيط بها مؤثرات قاسية من حرٍّ شديد، وزاد قليل، ومسافة بعيدة، في وقت طابت فيه الثمار والظلال، مع أنه كان ينوي السير مع الجيش، ولكنه ظل يسوِّف ويقول في نفسه: "أنا قادر على ذلك متى أردت"، ولكن التسويف أحيانًا عدو للإنسان، وهذا ما حصل مع كعب، فقد ذهب الجيش دون أن يرافقه لغير سبب وجيه، وعندما همَّ أن يلحق به بعد ذلك ليدركه، لم يسعفه الحظ، فهناك قَدَرٌ يُعَد له ليكون فيه عِبرة له ولغيره.
ذهب الجيش وبدأ كعب يُحِسُّ بفداحة الفعل، خاصة عندما رأى المدينة تخلو من القادرين على القتال، إلا من منافق أو عاجز، وهو بالطبع لم يكن واحدًا من هؤلاء، ولكن قدَّر الله وما شاء فعل.
عاد الجيش من الغزو، وبدأ المتخلِّفون يتوافدون على قائد الجيش صلى الله عليه وسلم، يعتذرون عن التخلف، فيقبل منهم علانيتهم، ويستغفر لهم، ويكِل سرائرهم إلى الله، وها هو كعب يأتي كغيره، ولكن ماذا يقول؟ هل يكذب بعذر ليرضى عنه صلى الله عليه وسلم؟ وهل سيرضى هو بذلك فيما لو حصل؟ كلَّا، فهناك إيمانٌ قد وقر في قلبه يمنعه من ذلك، وسيصدق القول، وليكن بعد ذلك ما يكون.
تبسم صلى الله عليه وسلم تبسُّم المغضب، ونطق بكلمة واحدة تُغني عن كثير من عبارات اللوم والتأنيب: ((وما خلَّفك؟))، وهنا يظهر صدق المؤمن لتبدأ بعد ذلك المعاناة القاسية التي سيمر بها، هو واثنان من الصحابة، لم يكن لهم عذر في التخلف عن الغزوة، وعندما علِم صلى الله عليه وسلم صِدْقَ كعب فيما قاله جوابًا عن سؤاله قال: ((أما هذا، فقد صدق، فقُمْ حتى يقضي الله فيك)).
إن المعاناة التي تكون وليدة صدق الإنسان مع نفسه ومع ربه، لا بد أن تكون خاتمتها حسنةً، وهذا ما حصل مع كعب، رغم المدة التي قضاها مهجورًا ممن حوله، فلا أحد يكلمه، ولا أحد يجالسه، إلا أنه أراح ضميره بالقول الصادق، ولم يحاول أن يختلق عذرًا يُعافيه من هذه المعاناة؛ لأن عاقبته ستكون حتمًا سيئة فيما لو فعل ذلك، وهذا ما كان يحسه فعلًا.
وتمر الأيام ثقيلة بطيئة، وكعب يشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ويسارقه النظر؛ لعله يرى من النبي ما يسره، ولكن هيهات؛ فالأمر ليس بهذه السهولة.
وفي أحد الأيام يحاول كعب أن يعرف موقف صحابيٍّ عزيز لديه منه، ومما جرى له، يدفعه إلى ذلك رغبة شديدة في إثبات صدق إيمانه، على رغم ما حصل منه، وهذا الصحابي هو أبو قتادة، فيأتي إليه مُسلِّمًا عليه، فلم يرد السلام؛ التزامًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله عن رأيه في محبته له ولرسوله، ولكنَّ أبا قتادة يجيبه بأخصر قول ليُنهي المحادثة: "االله ورسوله أعلم"، ولا مجال لأكثر من ذلك، وهنا تشتد وطأة المعاناة على كعب، فهو يريد جوابًا يستأنس به، ويخفف ما هو فيه من كرب وشدة، ولكن هيهات، فلم يأذن الله بعدُ بالفرج.
وفي أحد الأيام يحصل ما يزيد الأمر عناء وشدة، عندما يأتي رسول ملِك غسان برسالة إلى كعب يدعوه فيها بأن يأتيه؛ ليُكرمه بدلًا مما هو فيه من الهجران، وهذا موقف قد تضعُف فيه النفس، خاصة نفس الشاعر الذي من عادته أن يطلب الشهرة والمال، ولكن نفس كعب المؤمنة تأبى ذلك، وتسمو عن المغريات؛ لأنها تعرف عاقبة الاستجابة لهذا العَرْضِ المغري، وعاقبة الصبر على ما هي فيه، ونتيجة لهذه المعرفة المستنيرة؛ فإن مآل الرسالة كان إلى التنور، فلا مساومة في أمر الدين أيها الملك الغسَّاني.
وبعد مرور خمسين يومًا، وكعب وصاحباه في حال لا يعلم قسوتها إلا الله، يسمع كعب صوتًا صارخًا يقول بأعلى صوته: "يا كعب بن مالك، أبْشِرْ"، فيخر ساجدًا، فقد عرف أن الفرج جاء، لتنتهي هذه المعاناة الشديدة، وها هو يكسو صاحب الصوت ثوبَيه اللذين لم يكن يملك سواهما، وفي نفس الوقت يتوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال له عندما رآه: "أبْشِرْ بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك"، وصدق رسول الله؛ فهذا يوم يصعب أن يتكرر في حياة الإنسان بأن ينزل قرآن من السماء يُتلى إلى يوم القيامة؛ تأييدًا لصدق توبته وتوبة صاحبيه، وحاكيًا ما حصل لهم من شدة وضيق، سبَّبه تخلفهم عن الغزوة.
وهنا يُبدي كعب للرسول الكريم رغبته في أن يترك ماله صدقةً لله تعزيزًا لتوبته، ولكن الرسول يأمره بإمساك بعض ماله، فهو خير له، والله سبحانه وتعالى أعلم بالسرائر، فلم تنزل هذه الآيات إلا تصديقًا لتوبته وتوبة صاحبيه.
lh tug ;uf fk lhg;?
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|