الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فمن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة التكوير.
قال تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾ [التكوير: 1]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَلْيَقْرَأْ: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾ [الانفطار: 1]، و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾ [الانشقاق: 1]، وأحسب أنه قال: «سورة هود»[1].
أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة تميز الخلق وعلم كلٌّ ما قدمه لآخرته وما أحضره فيها من خير وشر.
قوله تعالى: ﴿الشمس﴾ الشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة، في يوم القيامة يكورها الله تعالى فيلفها جميعًا ويطوي بعضها على بعض، فيذهب نورها، ويلقيها الله تعالى في النار إغاظة للذين عبدوها من دون الله؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 98]، ويستثنى من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله، فإنه لا يلقى في النار؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 101، 102].
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[2]، وفي رواية: «ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ»[3].
قال الخطابي رحمه الله: ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلًا.
قال الشيخ الألباني رحمه الله: «وهذا هو الأقرب إلى لفظ الحديث، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى كما في الفتح 6/214: (ليراهما من عبدهما)، ولم أرها في مسنده، والله تعالى أعلم»[4].
قوله تعالى: ﴿كُورت﴾؛ أي انقضت وتساقطت من السماء فذهب نورها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾ [الانفطار: 2] وقال تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ [المرسلات: 8].
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴾ [التكوير: 3]؛ أي صارت كثيبًا مهيلًا، ثم صارت كالعهن المنفوش، ثم تغيرت وصارت هباء منبثًا وأزيلت عن أماكنها.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ [التكوير: 4]؛ أي عطل الناس يومئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها، ويراعونها في جميع الأوقات فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار وهي النوق الحوامل التي مر على حملها عشرة أشهر وهو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، جمع عُشراء وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 5] المراد بها جميع الدواب؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [الأنعام: 38]، فتحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس، ويقتص لبعضها من بعض، حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت ترابًا [5]، وإنما يفعل ذلك تعالى لإظهار عدله بين خلقه وغير ذلك من الحكم.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ [التكوير: 6]، البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تسجر، أي تشتعل نارًا عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبقى فيها ماء.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ [التكوير: 7]؛ أي قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، واقترن الكافرون بالشياطين؛ كقوله تعالى: ﴿ وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً ﴾ [الواقعة: 7] وقال تعالى: ﴿ حْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ [الصافات: 22].
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾ [التكوير: 8]؛ أي: الطفلة المدفونة حية، وكان أحياء من العرب في الجاهلية يقتلون البنات بدفنهنَّ في التراب خوفًا من الفقر أو العار؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [النحل: 57 - 59].
أما قوله: ﴿ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾ [التكوير: 9]؛ أي تُسأل الموؤدة: لم قتلت ودفنت حية؟ وفي ذلك توبيخ لقاتلها وتقريع، فإن المجني عليها إذا سئلت بحضور الجاني عن سبب الجناية كان ذلك أدعى لتبكيته وأكمل في افتضاحه.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴾ [التكوير: 10]، هي صحاف الأعمال تنشر عند الحساب، أي تفتح وتبسط لتقرأ بعد أن كانت مطوية بموت صاحبها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ﴾ [الإسراء: 13]، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ﴾ [التكوير: 11]؛ أي قلعت وأزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 104]، وكما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا ﴾ [الفرقان: 25].
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴾ [التكوير: 12]؛ أي أوقد عليها فاستعرت والتهبت التهابًا لم يكن لها قبل ذلك، ووقودها الناس أي الكفار والحجارة، حجارة من نار عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴾ [التكوير: 13]؛ أي قُربت لأهلها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الشعراء: 90]، ولم يذكر بروز الجحيم في مقابل إزلاف الجنة، بل ذكر بدله التسعير وهو أشد تهويلًا من ذلك.
قوله تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ﴾ [التكوير: 14]؛ أي علمت كل نفس ما أحضرت في صحائفها من عمل، خيرًا كان أو شرِّا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 30]، وقال تعالى: ﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ﴾ [القيامة: 13].
وهذه من الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم[6].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] 8/424 برقم 4806، وقال محققوه: إسناده حسن.
[2] صحيح البخاري برقم (3200).
[3] شرح مشكل الآثار للطحاوي (1/170) برقم (183)، وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (124).
[4] السلسلة الصحيحة: (1/ 245).
[5] أخرجه ابن جرير في تفسيره عن بعض الصحابة (10/ 8438)، وأورده الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة برقم (1966).
[6] تفسير جزء عم للشيخ ابن عثيمين رحمه الله (ص69 – 87)، وتفسير ابن كثير (14/ 257- 272)، وتفسير الشيخ عبدالرحمن بن سعدي (ص1238 – 1240)، وتفسير جزء عم وفوائده للشيخ عبدالرحمن البراك (ص73 – 77).