في الأسبوع الأخير من صراعه المرير مع السرطان، جلس في جناحه الخاص في
المستشفى الكبير، يحيط به جميع عُوّاده: أفراد أسرته وأقربائه وأصدقائه وطلابه
ومحبيه، وجميع مَن طلبهم للمجيء لسببٍ أو لآخر ومَن لم يطلبهم. ابتسامة
شجاعة تملأ غضون وجهه وهو لا ينفكّ يروي الطرفة بعد الطرفة والنكتة تلو
الأخرى فتنطلق ضحكاتهم ويشيع جوٌّ من السرور، وكأن الجمع قد التئمَ في مناسبةٍ
سعيدةٍ، مثل عرس أو ختان أو ميلاد طفل، وليس لوداعِ عزيزٍ راحلٍ إلى العالم الآخر
بعد أيام أو ساعات. هنا يختلط الهزل بالجدّ على عتبة الموت.
أتظاهرُ بالابتسام ومتابعة ما يقوله؛ ولكنّني، في حقيقة الأمر، أحاول جاهداً أن
أُدرك أمراً، أن أفكَّ لغزاً حيّرني منذ أسابيع، أثناء عياداتي المتكرِّرة المتواصلة
المطوّلة له، أو بعبارة أخرى أثناء مكوثي شبه الدائم في جناحه في المستشفى
خلال الأشهر الأربعة المنصرمة التي أمضاها هناك، بعد أن ظلّ يسافر كلّ شهر
تقريباً إلى باريس للعلاج مدَّة خمس سنواتٍ متعاقبةٍ، ولم ينجح العلاج، وأُغمي عليه
ذات يوم فحملوه إلى هذا المستشفى الوطنيِّ.
ما حيّرني وأقلقني وأشعرني بعجزي وأثار غيرتي في آنٍ واحدٍ، أنّ عينه اليمنى كانت
تتَّجه إلى مدخل ذلك الجناح بين الوهلة والأُخرى في انتظارِ قادمٍ ما، بَيدَ أنَّ عينه
اليسرى تخشى وصول ذلك القادم المُرتقَب ولا تريد حضوره. إحدى مُقلتَيه تستدعي
ذلك المجهول والأخرى تحذّره من المجيء وتصرفه.
ثلاثون عاماً من الرفقة الطيِّبة والعِشرة والمحبّة والصداقة الحميمة، بل الأخوّة
الخالصة، إضافةً إلى التشابه في خلفيّتنا العائليّة وتعليمنا وخبراتنا ومهنتنا
المشتركة، كلّ ذلك كافٍ ليجعلنا ـ أنا وصديقي سيدي محمد ـ قادرَيًن على فهم
رغبات الآخر وإدراك مشاعره، بمجرّد النظر إلى العينَيْن. العينُ نافذةٌ مشرَعةٌ على
باطن النفس. نأخذ أحياناً، ونحن وسط الآخرين، في التواصل فيما بيننا بعيوننا
، نُفصِح عن الرغبات والطلبات، ونعبّر عن مشاعر القبول والرفض، والرضا والسخط،
والفرح والحزن، دون أن نتفوّه بحرفٍ أو ننطق بكلمةٍ، ودون أن يعي الآخرون ما نحن
فيه. يكفيني أن أنظر إلى عينيْه لأفهم ما يريد، ويكفيه أن يلمح عينيَّ ليستوعب
مشاعري ويقف على أحاسيسي. أستبطنه ويستبطنني، أنفذ إلى أغوار نفسه، ويلج
في أعماقي. أسراره أسراري، وأسراري أسراره، لا يُخفي أحدنا عن الآخر شيئاً، آمالنا
واحدة، وهمومنا مشتركة، وأحاسيسنا متطابقة، ومشاعرنا متماثلة، كأنَّنا أصبحنا
كائناً واحداً أو روحاً واحدة حلّت في جسدين، كما يقول الشاعر:
روحُهُ روحي وروحي روحهُ
إنْ يشأْ شئتُ وإن شئتُ يشأْ