حينما تذهب الى صلاة الفجر في العشر الاواسط من أي شهر عربي تحس بجاذبية
غريبة تدفعك من حيث تشعر، أو لا تشعر نحو إطلالة القمر الذي اكتمل قرصه الفضي
فغدا كالملك المتوج على عرشه، وقد تحلقت حوله النجوم، كتحلق الغلمان والحشم!
وحين تخرج من الصلاة لا تملك، إلا ان ترفع رأسك نحو السماء، لترى ذلك المنظر الساحر
الذي يفوت الكثيرين التلذذ برؤيته، فالفجر الوليد يمتد باسطا ذراعيه ليزيح عن السماء
غلالة الليل السوداء، فتتكشف لك بهجة اللون الازرق الفاتح الذي يتلألأ شيئا فشيئا
على استحياء وخجل، وفي هذه الاثناء، تداعب محياك نسمة باردة منعشة، وينساب إلى رئتيك
هواء نقي يملأ نفسك انشراحا وطمأنينة، ويلف الوجود من حولك هدوء يريح الاذن
ويمنح القلب فرصة ثمينة للتأمل في ملكوت السماوات وتسبيح الخلاق العليم الحكيم.
كثيرة هي مناظر الجمال في الكون، وان خالها الناس قليلة محدودة، دع عنك تلك البلاد
التي تموج بالخضرة اليانعة وتنساح في وديانها الجداول الرقراقة، فقد لا ينازعك احد
في وفرة مباهج الجمال فيها، ولكن ذلك ليس بحكر عليها، كما يظن الظانون، فحتى الصحراء
لا تعدم من بهاء الجمال وسحره الفاتن ما يسكر الوجدان، ويدهش العقول»
أفلا ينظرون الى الابل كيف خلقت والى السماء كيف رفعت والى الجبال كيف نصبت
والى الارض كيف سطحت» غير ان الامر كله معقود على تلك العين الباصرة الذكية
التي تكتشف في المشهد المألوف ما يفوت الآلاف ممن حرموا لذة التفكر ومتعة التأمل
واذكر حين كنا اطفالا نبيت ليالي الصيف على سطوح دورنا، اذ كان الناس وقتها
في عافية من ادمان اجهزة التبريد والتكييف المزعجة، وكان الواحد منا يستلقي حينها
على فراشه مستقبلا بوجهه السماء بأفقها الرحب الواسع وزرقتها الداكنة، حيث تتناثر
في ارجائها النجوم تناثر الدر على بساط ازرق، وكان القمر بنوره المتفاوت
بين ليلة واخرى يسكب على المشهد السماوي روحا من الجدة والتغيير، كما يتفنن الرسام
المرهف في طلاء خلفيات لوحاته، وربما مخرت سحائب صيفية تائهة عباب السماء
لتزيد ألق الجمال نورا على نور، وذاك مشهد حرمنا منه منذ اعوام طوال، وأما أطفالنا
فلم يشهدوا شيئا من ذلك العرس السماوي البهيج!
ان مباهج الجمال تملأ الوجود، وربما حاولت الاصطدام بنا عن عمد لتلفتنا اليها
غير اننا رغم ذلك لا ننتبه لها، فقلوبنا مشغولة بغيرها، وعقولنا مصروفة عنها الى التفكر
في شؤون اسباب المعاش ومعاركة احداث الحياة، والحق ان التفكر في ملكوت السماوات
والارض، والتأمل في عجائب بديع صنع الله لا يقتصر اثره على الجانب الايماني
بزيادة اليقين والتعرف على صفات الخالق جل وعلا» «ان في ذلك لآيات لقوم يؤمنون»
ولكنه يورث النفس راحة وسكينة يبعثها ذلك الجمال فتغمر الوجدان لتتفيأ النفس
برد ظلالها، كما انه يوقظ فيها حواسها الخامدة، فيزكي عزائمها، ويحررها من أغلال الالف
والعادة، فلا عجب اذن ان رأيت البدوي يقطع الفيافي المقفرة بحذاء يطرب ناقته
التي تبادله النشاط بنشاط اكثر منه، بينما يغرق الاوروبي في بحر الكآبة والضجر ومن حوله الأشجار
والزهور والطيور، فشمس الجمال لا تشرق إلا في قلوب المؤمنين المستبشرين.