جــاء في الأثر أن ذا القرنين كان وحيد أمه، وأنه كما نعلم جميعًا طاف الأرض من مشرقها إلى مغربها فاتحًا وداعيًا، وأنه لما وصل إلى بابل مرض مرضًا شديدًا، وأحس بدنو أجله، فلم يخطر بباله حينذاك غير الحزن الذي سيصيب أمه إذا مات، فأرسل لها كبشًا عظيمًا ورسالة، وكتب إليها في الرسالة:
أماه، إنّ لنا في هذه الدنيا آجالا مكتوبة، وأعمارا معلومة، فإن بلغكِ تمام أجلي فاذبحي هذا الكبش، ثم اطبخيه، واصنعي منه طعامًا، ثم نادي في الناس أن يحضروا جميعًا إلا من فقد عزيزًا!
فلما بلغها نبأ موته، عمدت إلى تنفيذ وصيته، فصنعت بالكبش كما طلب، ونادت في الناس كما أوصى، ولكنها تفاجأت أن أحدًا لم يحضر ليتناول طعامها، فعلمت أنه ما من أحد إلا وقد فقد عزيزًا، ففهمت مراد ابنها من وصيته تلك، وقالت: رحمك الله من ابن، لقد كنت لي واعظًا في موتكَ كما كنتَ في حياتكَ.
تقع المصائب بشكل دائم، فهذه الدنيا ليست دار لقاء وإنما دار فقد، وليست دار إقامة وإنما محطة عبور، والموت ليس ضد الحياة وإنما هو جزء منها! .. نحزن لأننا بشر ونلتاع لأننا نحب، وننكسر لأننا نيأس، ونضعف لأننا أكثرنا الاتكاء على أحبتنا .. هو شيء طبيعي، ولكن علينا أن نتحلى بالأدب مع الله حين يمضي قدره، فالسخط لا يغير القدر، ولكن الرضى يزيد في الأجر، ألم يخبرنا ربنا عن بيت الحمد!
ما دام هناك مدارس وجامعات فسيبقى هناك نجاح ورسوب
وما دام هناك متاجر وأسواق فسيبقى هناك ربــــح وخسارة
نقيم مستشفيات جـــــــــــــــــــديدة لأن الأمراض باقية
ونحفر كل يوم قبورًا لأن المـــــــــــــــــــــــوت لا يتوقف
نقيم ورش ميكانيك لأن السيارات في طريقها الى التلف
وننشئ مراكز إطفاء لأن الحــــــــــــــــرائق ستبقى تندلع
هذه هي الدنيا، مزيج من كل شيء، من الخير والشر، ومن الحياة والموت، ومن الحرب والسلم، ومن العــــدل والظلم، ومن الصحة والمرض، ومن الزواج والطلاق، ومن الاجـــــتماع والافتراق ومن الفرح والحزن!
هكذا كانت قبلنا وهكذا ستبقى بعدنا، فما أجمل من أن نكـــون واقعيين ونحياها كما هي، وأن نخوض غمارها بكل أدب وأخذ بالأسباب لعمارتها مع التسليم والرضى والحمد لله رب العالمين