يحسن بنا لمعرفة
نظرة القرآن إلى
الحياة الدنيا أن نستعرض ما ورد في كتاب الله في هذا الموضوع, لا سيما وقد اضطربت عقول بعض المسلمين ونظراتهم وأقوال بعض الباحثين واتجاهاتهم في هذه الحياة.
إن
القرآن يقرّر ـ بكل وضوح وقوة وصراحة ـ قصر هذه
الحياة الدنيا وتفاهتها , وتضاؤلها في جنب الآخرة.
فيقول مثلاً : {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) } [ التوبة ]
ويقول:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(64)} [العنكبوت].
ويقول: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ(20) } [ الحديد ] .
ويقرر
القرآن بوضوح وقوة أن هذه
الدنيا قنطرة إلى الآخرة وفرصة للعمل فيقول : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا(7) } [ الكهف] .
ويقول : { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2) } [ الملك] .
ويقرر أن الآخرة هي دار خلود وبقاء وهي خير وأبقى, فيقول:{ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(32) } [ الأنعام] .
ويقول : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ(60) } [ القصص ]
إذاً فالقرآن يذم ويشنع على من يؤثر
الدنيا الفانية العارضة على الآخرة الباقية الخالدة الصافية من الأكدار الخالية من الهموم والتعب والأخطار فيقول: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ(15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(16)} [ هود]
ويقول أيضاً: {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(29)ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى(30) } [النجم] .
ويقول : { فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39) }[ النازعات] .
ويمدح
القرآن من يجمع بين
الدنيا والآخرة مع إيثار جانب الآخرة على جانب
الدنيا ومعرفة قيمتها وفضلها والحرص عليها فيقول : {فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ(200)وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(201) } [ البقرة ] .
ويقول على لسان نبي الله موسى عليه السلام { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } (الأعراف) .
وهنا تتعارض
نظرة القرآن مع
نظرة الفلسفات المادية التي تلح على أن هذه
الحياة هي كل شيء وهي المنتهى, وتبالغ في تقديسها وتمجيدها والحرص على تزيينها وتحسينها.
وقد تجلت النظرة القرآنية إلى
الحياة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال : ( اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة ).
وكان دعاؤه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ـ وفي رواية ـ كفافاً ) وقد كانت حياته الطيبة مرآة صدق لهذه العقيدة والنفسية , فعن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام على حصير وقد أثّر في جسده , فقال ابن مسعود, يا رسول الله لو أمرتنا أن نبسط لك ونعمل فقال: ( مالي وللدنيا , ما أنا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها ) .
ويقول عمر بن الخطاب دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على حصير, ليس بينه وبينه فراش, فقد أثر الرمال بجنبه, متكئاً على وسادة حشوها ليف, فقلت يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك , فإن فارساً والروم قد وسع لهم وأعطوا
الدنيا وهم لا يعبدون الله, فجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان متكئاً فقال: (أوَ في هذا أنت يابن الخطاب ؟ إنَّ أؤلئك قوم عُجِّلوا طيباتهم في
الحياة الدنيا ).