تزخر تركيا وبلدان العالم الإسلامي بكثير من المكتبات التي أنشئت في عهد الدولة العثمانية، وبقيت مفتوحة إلى يومنا هذا، لتقدم للباحثين والكتاب المعلومات والمصادر اللازمة في مواصلة عطائهم للأجيال القادمة. وقد ألحِقت المكتبات العلمية في صدر الدولة العثمانية بالمدارس الخاصة بالعلوم الدينية أو الدنيوية.
أول مكتبة علمية عثمانية
وتأسست أول مكتبة علمية عثمانية في مدينة بورصة، ومن ثم انتشرت المكتبات في مدن بولو وإيديرنة وإسطنبول وبقية المدن الأخرى على امتداد الدولة العثمانية. وتعتبر المكتبة التي أنشئت ضمن مدرسة دار الحديث في أدرنة من أوائل المكتبات في العهد العثماني. وتشير وقفية مدرسة دار الحديث التي أنشأها السلطان مراد الثاني (والد السلطان محمد الفاتح) إلى وجود واحد وسبعين مجلدا من المخطوطات النادرة.
المكتبات في عهد محمد الفاتح
والسلطان محمد الفاتح بعد فتح القسطنطينية سنة 857هـ / 1453م سعى لأن تكون هذه المدينة من أهم مراكز الثقافة الإسلامية في العالم، فاتخذ من بعض الكنائس البيزنطية الضخمة مدارس علمية تتضمن مكاتب علمية متنوعة الكتب والمراجع. وأهدى إليها العديد من كتبه المخطوطة. وتشير المعلومات إلى أن أول مكتبة أنشأها السلطان محمد الفاتح، هي المكتبة الموجودة بداخل مجمع مسجد الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، وقد أنشئت بعد الفتح بست سنوات.
ويتوقع مؤرخون أن أول مكتبة علمية مستقلة عن المدارس تم تأسيسها في عهد السلطان محمد الفاتح كانت عام 863هـ / 1459م في ساحة جامع أيوب (نسبة إلى الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري)، ولتطوير المكتبة وتوسيع مدى فائدتها أسس السلطان محمد الفاتح ما بين عامي 867 - 875هـ / 1463 – 1470م ثماني مدارس تعليمية بالقرب منها، ودعا العلماء المسلمين وغير المسلمين حول العالم للقدوم إلى إسطنبول لإجراء بحوثهم ونقل خبراتهم وأفكارهم القيمة لطلاب المدارس. ونقل كافة الطلاب في المدينة إلى هذه المدارس بعد أن أنشأ في وسطها مكتبة مركزية لتسهيل وصول الطلاب إلى الكتب والمصادر في كل وقت.
وتقول المصادر التركية بأن عدد الكتب التي أهداها السلطان محمد الفاتح للمكتبة المركزية بلغ ثمانمائة وتسعة وثلاثين (839) كتابا بحلول عام 875هـ / 1470م.
وقد دعم السلطان محمد الفاتح إنشاء المكتبات في عدد من المدن العثمانية الأخرى، وخصص حصة من الميزانية العامة للدولة لإنشاء المكتبات والاهتمام بها، فأنشأ مكتبة في قصر طوب قابى ونقل إليها الكتب التي كانت موجودة في أدرنة بعد نقل العاصمة إلى إستانبول.
جهود السلطان مراد الثالث
وفي القرن الحادي عشر الهجري / السادس عشر الميلادي أحدث السلطان مراد الثالث (982 – 1003هـ / 1574- 1595م) تغييرا جذريا في المكتبات العلمية، إذ حث على إضافة الكتب العلمية الأجنبية "الأوروبية"، وبدأ بذلك في عام 1001هـ / 1593م، وعمل على تحويل المكتبات العلمية من مكتبات نظرية إلى مكتبات بحث تطبيقية، فأنشأ مكتبة علمية في إطار تأسيس أول مرصد فضائي من قبل العالم الشامي "تقي الدين" عام 985هـ / 1577م.
جهود السلطان أحمد الثالث
وقد لقيت المكتبات اهتماما كبيرا في عهد السلطان أحمد الثالث (1115 - 1143هـ / 1703 - 1730م) الذي يعرف بالعهد الزنبقي في الفترة بين 1718 740م، حيث أنشئت عشرات المدارس، وتسارع إنشاؤها في عهد السلطان محمود الأول (1143 – 1168هـ / 1730 - 1755م).
جهود السلطان محمود الثاني
أراد السلطان محمود الثاني (1223 - 1255هـ / 1808 – 1839م)، رائد عملية الاصلاحات الغربية في الدولة العثمانية، فرض السيطرة الكاملة على المكتبات العلمية، لتوجيهها حسب خطط الإصلاح التي تقرها الدولة، ولكنه فشل في ذلك واستمر قادة الدولة وولاتها بتأسيس مكتبات علمية وقفية ومستقلة عن الدولة وتعليماتها.
اهتمام الولاة العثمانيين بالمكتبات
ولم يقتصر إنشاء المكتبات في العهد العثماني على السلاطين، بل كانت هناك مكتبات أنشأها بعض الولاة ومشاهير العلماء في إسطنبول والمدن الأخرى مثل أدرنة وبورصة وأماسيه وقونية. فقد أسس والي إيناجول "إسحاق باشا" مكتبة علمية ضخمة ما زالت قائمة حتى اليوم في مدينة إيناجول في عام 894هـ / 1489م، وأسس والي إيديرنة محمد زادة عام 897هـ / 1492م مكتبة مماثلة، وتبعهما في ذلك ولاة وعلماء المدن الأخرى، نذكر من هؤلاء العلماء والولاة محي الدين العلائي وعلي باشا العتيق وأحمد جلبي أفضل زاده ومحي الدين جلبي، وغيره، مما أدى إلى انتشار المكتبات في مدن الدولة العثمانية.
وقد أنشئت أول مكتبة علمية مستقلة عن إدارة الدولة العثمانية في إسطنبول عام 1089هـ / 1678م، من قبل القائد العسكري "مصطفى باشا"، وقد منحت للعلماء والمفكرين، وأقيم بالقرب منها خان لاستضافتهم ومساعدتهم في بحوثهم العلمية.
ئ مكتبة خسرو بك
وفي بلاد البلقان أسس الغازي خسرو بك والي البوسنة والهرسك مكتبته الشهيرة في سراييفو، وهي من أشهر المكتبات العثمانية على الإطلاق، وذلك سنة 944هـ / 1537م. وتعدّ مكتبة غازي خسرو بيك في العاصمة البوسنية سراييفو، وبداخلها مخطوطات فريدة من نوعها، بمثابة "الذاكرة" لمنطقة البلقان، ولا تزال في الخدمة منذ مئات السنين. وتحوي المكتبة آلاف المخطوطات العربية والتركيّة والفارسيّة، وبلغ عموم ما أودع خزائن المكتبة خمسين ألف وحدةٍ من المجلّدات والمؤلّفات والمجلاّت والوثائق التركيّة باللغات الشرقيّة والغربية، منها سبع آلافٍ وخمسمئة مجموعةٍ، وخمسة عشر ألف كتابٍ ورسالة في العلوم الإسلاميّة واللغات الشرقيّة والأداب، إلى جانب مثل هذا العدد باللغات السلافيّة والأوروبيّة، ونحوأربعة آلاف وثيقةٍ تاريخيّة تتعلّق بتاريخ البوسنة والهرسك، وألفًا وأربعمئة وثيقة حول أوقاف البوسنة، وستًا وثمانين سجلًا للمحاكم الشرعيّة البوسنويّة، وكتب ووثائق أخرى بالغة الأهمّيّة.
المخطوطات الإسلامية بالمكتبات العثمانية
وإذا استثنينا وثائق الأرشيف العثماني التي هي في الأصل مخطوطات يدوية ويقدر عددها حوالي مائتين وخمسين مليونا، فإن عدد الكتب المخطوطة في مكتبات تركيا يقدر بثلاثمائة ألف، ويزيد عدد المخطوطات باللغة العربية على مائة وستين ألف مخطوطة، وتتوزع المخطوطات العربية في أكثر من خمس وثلاثين مكتبة تابعة لوزارة الثقافة. بينما يبلغ عدد المخطوطات باللغة التركية سبعين ألفا، والفارسية ثلاثة عشر ألفا وهناك مئات المخطوطات باللغات اليونانية والأرمنية والسريانية.
أشهر المكتبات العثمانية والتركية
هناك العديد من المكتبات الأخرى تحوي الكثير من الكتب المخطوطة من مختلف اللغات، أهمها مكتبة بايزيد ومكتبة جامعة إستانبول، ومكتبة بلدية مدينة إستانبول الكبرى، ومكتبة مرصد قنديللي. وبحسب بيانات مؤسسة الإحصاء التركية "تورك ستات"، فإن إسطنبول تحوي 59 مكتبة عامة، أهمها:
مكتبة السليمانية (Süleymaniye Kütüphanesi)
تأسست عام 1918م، كجزء من مجمع مسجد السليمانية العريق. ثم أعيد افتتاحها لعامة الزوار في بداية القرن الحالي. تتميز باحتوائها أكبر مجموعة مخطوطات للكتب الإسلامية والعثمانية. ومع بداية العهد الجمهوري في تركيا عام 1924م صدر قانون توحيد التدريس وقانون إغلاق التكايا والزوايا تم بموجبه نقل المخطوطات الموجودة في المكتبات المختلفة في إستانبول إلى مكتبة السليمانية. فبلغ عدد الكتب المخطوطة في مائة وست مجموعات سبعين ألف مجلد، منها خمسون ألف مجلد باللغة العربية، وستمائة وثمانون مجلد بالفارسية. ومن المجموعات المهمة في مكتبة السليمانية نجد مجموعات أياصوفيا ووهبي البغدادي وجار الله والداماد غبراهيم وأسعد أفندي والفاتح والحميدية وقليج علي وغيره.
مكتبة كوبريلي
وهناك مكتبات أخرى في إسطنبول تحوي الكثير من المخطوطات العربية وغيرها، ومن أهم هذه المكتبات مكتبة كوبريلي ويبلغ عدد المخطوطات في هذه المكتبة ألفين وسبعمائة وخمسة وسبعين، وكذلك مكتبة عاطف أفندي ويبلغ عدد المخطوطات فيها ثلاثة آلاف ومائتين وثمانية وعشرين، ومكتبة راغب باشا ويبلغ عدد الكتب المخطوطة فيها ألفا ومائتين وخمسة وسبعين مجلدا. ومكتبة نور عثمانية ويبلغ عدد مخطوطاتها خمسة آلاف واثنتين وخمسين مخطوطة. ومكتبة الحاج سليم آغا وعدد مخطوطاتها ألفين وتسعمائة واثنتين وخمسين مخطوطة.
مكتبة مللت
وتأتي مكتبة مللت الكائنة بحي الفاتح في الدرجة المرتبة الثانية في عدد مخطوطاتها، حيث يبلغ عدد المجلدات المخطوطة فيها عشرة آلاف وخمسمائة.
مكتبة بايزيدBeyazıt Kütüphanesi
ومكتبة بايزيد (Beyazıt Kütüphanesi) واحدة من أقدم مكتبات إسطنبول، بنيت عام 1301هـ / 1884م، في منطقة بايزيد في الفاتح. وتعتبر المكتبة الوجهة الأولى للمهتمين في التاريخ العالمي، حيث تضم ما يزيد عن المليون مؤلف، منها الكتب والصحف والخرائط القديمة والأرشيفات القديمة. كما أن احتواءها على صالات للقراءة وغرق للموسيقى والأفلام والمؤتمرات يجعلها تبدو أكثر من مجرد مكتبة.
مكتبة أتاتورك (Atatürk Kütüphanesi)
أنشئت في عام 1939م، في منطقة تقسيم الشهيرة في وسط مدينة إسطنبول. تتميز باستقبالها القراء والباحثين على مدار الساعة والعام دون إغلاق. كما يزورها كل يوم ما لا يقل عن 600 زائر. وهي أول مكتبة تابعة للبلدية في تاريخ الجمهورية التركية. تتمتع المكتبة بتصميم مميز يبرز جمال موقعها الكائن على على قمة تلة خضراء تطل على مضيق البسفور. تحتوي المكتبة اليوم ما يقارب 500.000 مؤلف، منها كتب وخرائط بالاضافة لأكبر مكتبة للمجلات والصحف.
__________________
المصدر:
- تقارير من موقع ترك برس.
- كمال أحمد خوجه: المكتبات العثمانية والمخطوطات العربية والإسلامية في تركيا، جريدة الرياض السعودية، العدد (13613)، 27 شعبان 1426هـ / 1 أكتوبر 2005م.
- - مخطوطات الحديث النبوي وعلومه في مكتبات البوسنة، تأليف: أحمد عبد الكريم نجيب، أستاذ الحديث النبوي وعلومه في كلية الدراسات الإسلاميّة بسراييفو، والأكاديميّة الإسلاميّة بزينتسا، ومدرّس العلوم الشرعيّة في معهد قطر الديني سابقا.