اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على خير البرية وأزكى البشرية، وعلى آله وصحبه؛ أما بعد:
إن صلة الرحم عمل جليل، وعبادة عظيمة، وربح كبير، وسير على خطى السنة النبوية، وفيها من المنافع والنتائج ما تطمئن معه النفس الواصلة في دنياها، وما يلحقها من الأجور في أخراها، فهنيئًا للواصلين بفضل الله تعالى عليهم، ولنا مع
الصلة والقطيعة عشرون وقفة، ترغيبًا وترهيبًا حسب نصوص الوحْيَيْنِ، واستقراءً للواقع الجميل لأقوامٍ وُفِّقوا فوصلوا، وللواقع الأليم لأقوامٍ حُرموا فقطعوا، فأرعوني أسماعكم يا رعاكم الله؛ فالموضوع غاية في الأهمية.
الوقفة الأولى: إن صلة الرحم علامة الإيمان؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصلْ رحِمه))، وهي سبب لزيادة العمر والرزق؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثرِهِ، فليصل رحمه))، فهذه ثلاثُ ركائزَ عظيمةٍ جمعت الدنيا والآخرة؛ وهي: الإيمان، وزيادة العمر، والرزق.
فها هي أخي الكريم في
الصلة إن أردتَها، وقيل في زيادة الرزق والعمر بأنه على حقيقته، وقال آخرون بأن الزيادة هي البركة الموجودة في رزق وعمر ذلك الواصل.
الوقفة الثانية: تكون صلة الرحم بأمور عديدة؛ منها: زيارتهم بنفسه وجلوسه معهم وهذا أهمها، ومن صلتهم أيضًا المراسلة والمكالمة، ومعاملتهم بالحسنى والدعاء لهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، وقضاء حوائجهم وإهداؤهم والصدقة عليهم، ودلالتهم على الخير وتحذيرهم من الشر، كل هذا من صلتهم، فلنحرص على ما نستطيعه من ذلك، ولا تقتصر زيارتك لهم على حضور المناسبات فقط، بل الزيارات الخاصة لها شأنها وذوقها الخاص، فالواصل محبوب عند الجميع ذو تقدير لديهم جميعًا.
الوقفة الثالثة: على الواصل استحضار نيته في صلته بأنه يقوم بعبادة عظيمة، ولا يعتبرها عادة وأحاديث جانبية فقط حتى في حضور المناسبات؛ ليستشعر ويحتسب حضوره وكلماته الطيبة ودعواته وابتساماته كلها له صدقات، فإن هذا الاستشعار والاحتساب له الأثر الكبير على سلوك الإنسان وحياته وقوة عزيمته.
الوقفة الرابعة: لا تتصور أخي الواصل أن
الصلة تكون خاليةً من العقبات أو المتاعب ونحو ذلك، لكن بتوفيق الله تعالى ثم بعزيمتك ذلِّلْها وتجشَّمْها، ومع وجودها يعظُمُ أجرُ صلتك؛ فقد يتوقف البعض عن
الصلة بسبب موقف معين أو كلمة أو تصرف ونحو ذلك، وليس هذا من خلق العاقل الحصيف.
الوقفة الخامسة: حاول جاهدًا وضع جدول يناسبك بالأيام والأوقات لزيارة أرحامك؛ كالأعمام في يوم كذا وكذا، والأخوال في يوم كذا وكذا، أو أن تحدد الجمعة الأولى من الشهر للأعمام والعمات، والجمعة الثانية للأخوال والخالات والجمعة الثالثة لآخرين وهكذا، فيكون يوم الجمعة مخصصًا في الغالب في
الصلة ومَن كان بعيدًا منهم فبالمكالمة، فإن هذه الجدولة تضبط مسارك في صلتك متقيدًا بآداب الزيارة؛ ومنها: ألَّا يطيلَ المكث، وأن تكون الزيارة في الوقت المناسب، وألَّا يسأل أسئلة دقيقة محرجة، وأن يُدخِلَ من خلال حديثه معهم الأخبارَ المفرحة مع الانبساط والابتسامة ونحو ذلك، مما يجعل المُزار يرغب بتكرار هذه الزيارة مرات وكرات، بخلاف ما إذا زار زيارة واحدة، سئم منه المزار ولم يرحب به بعد ذلك.
الوقفة السادسة: عندما تحصل الزيارة منك لهم أو منهم إليك، فليحصل كمال الاستبشار والاستقبال والحفاوة والابتسامة والكلام الطيب، بخلاف من يفتقد هذا خلال زيارته، فإن أحد الطرفين قد يَمَلُّ ولا يعود.
الوقفة السابعة: كان أحدهم وهو في السبعينيات من عمره قد حدد وقتًا لزيارة أقربائه حتى الصغيرات منهن، ويقول لهن: أنا أقدر منكن على الزيارة نظرًا لارتباطكن بأزواجكن، ومثله كثير والحمد لله، بينما آخرون يمر عليهم سنوات تزيد على العشر تقريبًا، لا يعرف زيارة أعمامه ولا يعرف أبنائهم، وينقطع عن مناسباتهم وذلك لأعذار واهية، فالناس موفَّق ومحروم، فاحرص على الأول واحذر من الثاني.
الوقفة الثامنة: من مظاهر القطيعة عدم مشاركة أقاربه في أفراحهم وأتراحهم، ومن مظاهرها أيضًا وصل الواصل فقط وقطع القاطع منهم، ومن مظاهرها عدم زيارتهم وعدم خدمتهم إذا احتاجوا وكان قادرًا على ذلك، ومن مظاهرها دعوة الأبعدين وترك الأقربين، ومن مظاهرها أيضًا عدم معرفته لصلة القرابة بينه وبين قريبه وهذه غاية في القطيعة، فليتقِ الله كلُّ هؤلاء ونحوهم؛ حتى يصلوا إلى الأمر المطلوب منهم شرعًا.
الوقفة التاسعة: تتعدد أسباب القطيعة، لكن من أهمها:
أولًا: الجهل بعواقب القطيعة في الدنيا والآخرة، فكيف يسمع ويقرأ قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 23]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قاطع))، ثم هو يعيش تلك القطيعة.
ثانيًا: من أسباب القطيعة الانقطاع الطويل عن الأقارب ثم يصعب عليه الوصل لهم.
ثالثًا: العتاب الشديد من بعض المزورين لبعض الزائرين على انقطاعه الطويل.
رابعًا: من أسباب القطيعة قلة الاهتمام من المزار للزائر.
خامسًا: الطلاق بين الأقارب، فإذا طلق زوجته وهي قريبته قطعهم، وهذا من الأخطاء.
وغير ذلك مما يسبب القطيعة بين الأرحام، فحاول تفاديها والبعد عنها والتحذير منها.
الوقفة العاشرة: علاج قطيعة الرحم يكون بتفادي تلك الأسباب السابقة، وأيضًا ليعلم أنه مسؤول يوم القيامة عن هذه القطيعة فماذا سيقول؟ وأيضًا ليتذكر الوعيد الشديد في ذلك من اللعنة والعمى والصَّمَمِ نعوذ بالله من ذلك، وليتذكر قوله في الحديث القدسي عن الرحم: ((ألا ترضين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك، قالت: بلى، قال: فهو لكِ))، فهل يرضى عاقل حصيف أن ينقطع عنه وصلُ الله تعالى له بالخيرات والبركات وغيرها؟ إضافة إلى أن القطيعة من كبائر الذنوب.
الوقفة الحادية عشرة: تتعدد الوسائل المعينة على الصلة؛ ومنها:
أولًا: استحضار الأرباح المترتبة على
الصلة في الدنيا والآخرة؛ من وَصْلِ الله له، وغفرانه لذنوبه، ورضاه عنه وغير ذلك، ومقارنتها بالخسائر إذا قطع رحمه.
ثانيًا: الصفح عن أخطائهم ما أمكن؛ فهو مأجور ومحبوب عند الله وعند خلقه إذا فعل ذلك.
ثالثًا: التغافل والتجاهل عن الزَّلَّات والأخطاء الممكن تجاهلها.
رابعًا: إنزالهم منازلهم وفَهم نفسياتِهم وأحوالهم.
الخامس: ترك التكلف في تكريم الزائر، فليس الأكل والشرب هو المقصود من الزيارة.
سادسًا: بذل الهدية والصدقة كلٌّ بحسبه.
سابعًا: أن يخلص العمل لله تعالى في زيارته فلا رياء ولا سمعة.
الوقفة الثانية عشرة: لو تأمل القاطع حقَّ التأمل الإثمَ المترتب على القطيعة، لسارع إلى الصلة، وهل يرضى أن يكون ملعونًا، وهو المطرود من الرحمة، وأن يكون موصوفًا بالصمم والعمى؟ وهل يرضى ألَّا يصله الله تعالى؟ ومع ذلك فقد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، فهو عند أهل السنة والجماعة فاسقٌ بكبيرته، كما أنه أيضًا مُبعَدٌ وموصوف بالذمِّ عند أقاربه وعشيرته، إضافة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قاطع))؛ [متفق عليه]. فأين عقل القاطع من هذه العقوبات العظيمة؟ كيف لا يتأملها ولا يفكر فيها؟
الوقفة الثالثة عشرة: إن الشيطان حريصٌ كلَّ الحرص على وجود القطيعة بين المسلمين، فيثبط هذا ويوسوس لذاك ويعرقل الثالث وهكذا، لكن مع الأسف فإن بعض المسلمين استجاب لخطوات الشيطان، فأقاموا حيث أقامهم، ولو تأمَّلوا قليلًا بأن هذا الشيطان هو عدوهم الأول والأخير لخالفوه، فمن الغريب جدًّا أن تجدَ عاقلًا مفكرًا حصيفًا متميزًا في أمور كثيرة، ثم يخفق في هذه الخطوات الشيطانية للقطيعة.
الوقفة الرابعة عشرة: لما ثقلت
الصلة عند فئة من الناس، فإننا نقول للمجتمع: احرصوا على حضور المناسبات العائلية من الأفراح والاجتماعات ونحوها؛ لأنها باب كبير من الصلة، وتجمع عددًا كبيرًا من الأرحام، فهذه المجالات فرصة عظيمة لا يضيعها العاقل المنصف.
الوقفة الخامسة عشرة: جميلٌ جدًّا أن يتعاهد بعض الأقارب على إحياء صلة الرحم بين أقاربهم، ويشجعون عليها ويرتبونها ويجعلونها واقعًا عمليًّا لهم، فيقتدي بهم غيرهم من أرحامهم ويخططون لإحياء ذلك العمل الجليل، معتبرين بذلك الزمان والمكان المناسبين للزيارة.
الوقفة السادسة عشرة: عند زيارة بعضكم لبعض فأنتم بهذا في عبادة عظيمة وجليلة؛ فاحتسبوها عند الله تعالى، وإياكم والخوضَ في أعراض الآخرين؛ فإن الإنسان قد يذهب منه من الحسنات أكثر مما يأتيه منها، فليحفظ لسانه عن آفاته عمومًا وفي الزيارة خصوصًا، ومن الجميل إذا ناسب المجال أن يكون معه هدية في زيارته للصغار من الحلوى ونحوها، أو مما يناسب الكبار لما يمكن تناوله في مجلسهم ونحو ذلك؛ فهذا إذا كان مناسبًا، فله وقْعُهُ الخاص.
الوقفة السابعة عشرة: وسائل التواصل يمكن أن تُستثمَر في
الصلة بمعرفة أخبارهم وإفادتهم وخدمتهم والمزاح المباح معهم، والتنسيق لاجتماعهم وشؤونهم، فهي من
الصلة الحديثة.
الوقفة الثامنة عشرة: على خطباء الجوامع والوعَّاظ والدعاة الأكارم الأفاضل طرحُ هذا الموضوع في مجالسهم ومنتدياتهم ومنابرهم؛ لتوعية المجتمع بأهمية ذلك.
الوقفة التاسعة عشرة: شرطان عظيمان في استمرار التواصل بين الأسر؛ وهما:
أولًا: التغافل والتجاهل عن الأخطاء.
وثانيًا: العفو والتسامح إذا تقرر الخطأ.
والفرق بين الأمرين: أن الأول يجعل الخطأ كأن لم يكن وذلك بالتغافل والتجاهل، وأما الثاني فهو بعد حصول الخطأ فليُعفَ عن المخطئ إذا جاء معترفًا بخطئه.
الوقفة العشرون: وجود دليل يشمل بيانات أفراد
الأسرة وأعمالهم وسائر بياناتهم الممكنة؛ فهذا يكتسب من خلاله أفراد تلك
الأسرة معرفة أقاربهم عن قرب، ويحصل تحديث لهذا الدليل سنويًّا، ولا يلزم أن يُطبع طباعة فاخرة مكلفة؛ لأنه سيُحدَّث دوريًّا لا سيما إذا أُضيف إليه بعض العبارات التربوية والإيمانية، ما يعين على
الصلة والتواصل.
أيها الكرام، هذه عشرون وقفة مع موضوع
الأسرة بين
الصلة والقطيعة، حسبي أنها تذكِّره والذكرى تنفع المؤمنين، ولعلها تكون موقظة لأُناس مشجعة لآخرين، راجيًا منكم يا كرام تفعيلَها، لعل الله تعالى أن ينفع بها، علمًا بأن في الواقع الأسري مشاهدَ ومواقف جميلة ومشرِّفة بالصلة، وهي مضرب المثل بحمد الله تبارك وتعالى.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتواصلين المرحومين الموفقين المباركين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.