إن من تأمل كتاب الله عز وجل وتدبر آياته البينات وجد موضوعها الأساس هو توحيد الله عز وجل والأمر بعبادته وحده، وذكر ما أعده الله عز وجل للموحدين من عباده من النعيم المقيم، وما أعده للمشركين أعداء توحيده من النكال والعذاب الأليم، وضمنه ما شرعه لعباده من الشرع الحكيم الذي يحققون به عبادة الله عز وجل واستسلامهم له وإسلامهم لحكمه. وهذه هي حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام الذي هو دين الرسل جميعًا، الذين دعوا إلى إسلام الوجه لله عز وجل بعبادته وحده والتسليم لأمره وحكمه؛ حيث إن العبودية الصادقة لا تتحقق إلا بالإسلام والتسليم والانقياد لله رب العالمين. وقد وردت في كتاب الله عز وجل نصوص كثيرة مبينة لمعنى هذا الإسلام والتسليم وفضل أهله، منها قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، وقوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125]، وقوله تعالى: {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [لقمان: ٢٢]، وقال عن خليله إبراهيم إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَـمِنَ الصَّالِـحِينَ 130 إذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ 131 وَوَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132]، ومن ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة: 208]، وقد وصف الله عز وجل من امتلأ قلبه بالإيمان والتسليم لله تعالى بأنه ذو «قلب سليم» جاء ذلك في ثنائه سبحانه على خليله إبراهيم بقوله: {وَإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ 83 إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84] كما جاء ذلك في دعاء الخليل عليه السلام لربه بقوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ 87 يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ 88 إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 87 - 89]، لذا فإن التربية الإيمانية على محبة الله عز وجل وتعظيمه ورجائه والخوف منه والتسليم لأمره ونهيه وحبه لتأتي اليوم على رأس الأولويات والواجبات التي ينبغي للمربين أن يعتنوا بها، وذلك للأمور التالية: الأمر الأول: وجوب بيان معنى الإيمان والإسلام الحقيقي لله تعالى المنجي عند الله عز وجل من سخطه وعذابه الذي بعث به الأنبياء والرسل وجعله الغاية من خلق الثقلين، وأنه ليس بمجرد الانتساب للإسلام والهوية الإسلامية أو فعل بعض الواجبات وترك بعض المحرمات فحسب وإنما هو إسلام النفس لله تعالى بعبادته وحده لا شريك وإخلاص التوحيد له سبحانه وإفراده بالمحبة والخوف والرجاء وسلامة القلب من كل شبهة تعارض الخبر، ومن كل شهوة تعارض الشرع والأمر، ومن كل اعتراض يعارض القضاء والقدر، وبيان أن هذه هي مواصفات القلب السليم المستسلم لربه سبحانه الراجي لرضوانه وبأن سلامة القلب ليست مجرد ما يفهمه كثير من الناس بأنه القلب السالم من الحقد والحسد والغل، حيث يقصرون وصفه على ذلك فحسب؛ بل هو أكبر وأشمل من هذا الفهم القاصر بكثير. لذا فإن بيان هذا الأصل العظيم من أوجب الواجبات وأهم المهمات، فعليه يقوم بناء الدين وبه يتحقق الإيمان الذي يثمر سعادة الدنيا والآخرة. وإنه لمن أكبر المصائب على العبد أن يخرج من هذه الدنيا وهو جاهل بهذا الأصل العظيم لم يذق له طعمًا. ولا تظهر الحاجة بل الضرورة إلى هذا الأمر كما تظهر في واقعنا المعاصر لذا فإن التربية على هذه المعاني اليوم من أعظم الواجبات وأهم الضروريات، حيث يجب على العبد تفقد هذا الأمر في نفسه وتربيتها على التمسك به، وذلك لما ظهر في زماننا اليوم من قلة الوازع الديني الذي سببه ضعف تعظيم الله عز وجل في النفوس وقلة الخوف منه وتوقيره والحياء منه، مما كان له الأثر في الجرأة على المحرمات والاستهانة بالواجبات والجرأة على النصوص الشرعية المحكمة وردها وأصبحنا نرى تطفل كثير من الكتاب والمثقفين الجاهلين بعلوم الشرعية يتعاملون بأهوائهم مع نصوص الكتاب والسنة كأي علم إنساني آخر ليس لها خصوصية التعظيم والتوقير، فالكل له الحق في الخوض في القضايا الشرعية وانتقاد المناهج الشرعية وعلماء الشريعة بحجة أن الدين ليس حكرًا على طائفة!! أو بقولهم لا تقحموا الدين في كل شيء، وقد تأثر بطروحاتهم هذه عدد ليس بالقليل من الناس. وكل ذلك إنما نشأ من الهوى وضعف الإيمان بالله عز وجل فاطر السموات والأرض، والجهل بمعاني أسمائه الحسنى وصفاته العلا التي تثمر في النفوس التعظيم لله عز وجل والتسليم له وقبول شرعه والانقياد له محبة ويقينًا وخوفًا ورجاءً وقبولًا واستسلامًا؛ قال الله عز وجل عن نبيه نوح # وهو يدعو قومه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] لذا فإن التربية على هذا الأصل وإشاعة فهمه في الأمة لمن أكبر أسباب تقوية الإيمان والانقياد لأوامر الله عز وجل والاستسلام له. الأمر الثاني: ما ظهر في زماننا اليوم من ثورة هائلة في وسائل الإعلام والتواصل والاتصالات واستخدام هذه الوسائل من قبل أعداء هذا الدين من كفار ومنافقين في بث الشهوات وتسهيل الوصول إلى المحرمات وإثارة الشبهات والشكوك والاعتراضات على ثوابت هذا الدين وأصوله وأحكامه، فتأسست من أجل ذلك مواقع إلكترونية وقنوات فضائية ودور نشر تمكر في الليل والنهار، فقست القلوب بذلك ووافقت عند بعض أبناء المسلمين قلوبًا خاوية من العلم والشرع والتقوى آلت ببعضهم إلى الحيرة والشك والعياذ بالله تعالى، فلا جرم كانت الحاجة بل الضرورة ماسة لرد الناس إلى الفهم الصحيح للإسلام والإيمان وتربيتهم عليه وأنه قائم على التسليم لله عز وجل رب الناس ملك الناس إله الناس العليم الحكيم اللطيف الخبير العظيم الكبير العلي الأعلى الرحمن الرحيم العليم الخبير القوي العزيز له الأسماء الحسنى. وهنا ينبغي التأكيد على أن رد الشبهات المثارة حول هذا الدين وأحكامه لا يكون بالوقوف عند الشبهة وردها مجردة وإنما يكون بالتربية الإيمانية، وذلك بربط القلوب بربها والاستسلام له والتسليم لأمره وخبره وشرعه وما لم تتمكن هذه الأحوال من القلوب فلن تجدى مناقشة الشبهات والرد عليها مجردين عن هذا الأصل العظيم، فإذا تمكن في القلوب الإيمان والتسليم الحق لله عز وجل وانقادت القلوب لبارئها وقوي يقينها بربها واستسلمت لأخباره فكلها صدق، ولأحكامه فكلها عدل وفضل ورحمة قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، صدق في الأخبار وعدل في الأحكام، فمتى ما اتصفت القلوب بهذا التسليم لم يكن للشبهات ولا الشهوات عليها طريق وإن وردت فإنها ترد بهذا التسليم وقوة الإيمان واليقين وبيان حكمة الله عز وجل فيما يشرع، وما لم تتبين الحكمة فيه فلقصور في العقول، وحينئذ يتلقى بالتصديق والقبول والتسليم كما قال الراسخون في العلم {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: ٧]. الأمر الثالث: إن في طرح هذا الموضوع المهم ورد الناس إليه علاجًا لكثير من الأمراض القلبية والنفسية التي كثرت في الأزمنة المتأخرة، كالقلق والحيرة والاضطراب والاكتئاب، والتي مرد كثير منها إلى ضعف الإيمان والركون إلى الدنيا ونسيان الآخرة مما نشأ عنه كثرة الاعتراضات التي تكون في القلوب، سواء على أخبار الله عز وجل الغيبية أو على أحكامه الشرعية أو على أقداره المؤلمة. ولا سبيل لعلاجها إلا بمعرفة الله عز وجل حق المعرفة وتعظيمه وإجلاله والتعبد له سبحانه بأسمائه الحسنى وإقامة واعظ الله في القلوب والتسليم للخالق العليم الحكيم الذي هو على كل شيء قدير يعلم ولا نعلم ويقدر ولا نقدر وهو علام العيوب {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ} [الملك: 14]، وبهذا التسليم والتفويض والتربية الإيمانية تحصل الراحة والسكينة والطمأنينة. الأمر الرابع: ظهور أقلام وأصوات لبعض المنافقين الذين يسمون أنفسهم بالليبراليين أو العلمانيين ومن تأثر بهم ممن يتسمى بالعصرانيين والتنويريين تدعو إلى فصل الدين عن الحياة، وتزعم أن نصوص الوحي لم تعد صالحة لإدارة شؤون الحياة المعاصرة إلا بقراءة جديدة ومتطورة، ويسمون من يدعو إلى التسليم للكتاب والسنة وتحكيمها في جميع شؤون الحياة بأصحاب الإسلام السياسي ويكيلون لهم شتى التهم المنفرة كالمتطرفين والإرهابيين والأصوليين؛ فكان لا بد من التصدي لهذه الدعوات الخبيثة. وذلك بالتربية المكثفة علي الإيمان والتسليم لله تعالي ولشرعه حيث إن مثل هذه التربية تعد من أقوى ما تواجه به هذه الدعوات الخبيثة. وأشد شيء يخشاه أصحاب هذه الدعوات أن يواجهوا بهذا السيف البتار سيف التسليم والإسلام لله تعالي وتربية الناس عليه والذي هو ركن التوحيد والعبودية لله عز وجل قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّـمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]. الأمر الخامس: طغيان الحياة المادية والثورة الصناعية وطغيان العلوم التجريبية في حياة الناس مما كان له الأثر في إضعاف الإيمان بالغيب وغرور الإنسان بعقله والتركيز على الأمور المحسوسة ورد كل ما لا يدرك العقل كيفيته فكان لا بد من تدارك هذا المرض ببيان مكانة العقل وحدوده ودوره في تلقي النصوص وأثر الإيمان والتسليم في علاج مثل هذه الأمراض. الأمر السادس: ما نشهده اليوم من انفتاح كبير على متاع الدنيا وزخرفها وزينتها، الذي لم يشهد له التاريخ مثيلًا، وما صاحب ذلك من وسائل دعائية ماكرة، تدعو الناس إلى بهجة الحياة الدنيا ومتاعها الزائل، وتلاحق الناس بكل جديد من وسائل الترف والمتعة والزينة، تدعو الناس إليها وتسهل الوصول إليها وترغب الناس فيها، والركون إليها، وكأنهم مخلدون فيها فنسيت الآخرة، وأصبح الناس في لهث وراء الدنيا والتكاثر فيها، ومتابعة الجديد منها في كل صباح ومساء، حتى أصبحت عند كثير من الناس غاية يتنافسون فيها ويتحاسدون. وأصبحنا نرى جليًّا ذلك التفرق والتدابر الحاصل اليوم بين ذوي الأرحام والإخوان بل بين بعض الدعاة والمجاهدين والذي يمكن عزو كثير من أسبابه إلى هذه الدنيا، والتكاثر فيها، والغفلة عن الآخرة وضعف الإيمان واليقين والإخلاص، ولا علاج لذلك إلا بالتربية الإيمانية وإصلاح القلوب وإنشاء هم الأخرة في النفوس. والحمد لله رب العالمين..