الكاتب أحمد أمين يعبر عن فرحته بقدوم الربيع بكلمات تنبع من قلب رقيق ، فيقول :
ها أنت – أيها الربيع – .
أقبلت ، فأقبلت معك الحياة بجميع صنوفها وألوانها : فالنبات ينبت ، والأشجار تورق وتزهر ، والهرة تموء ، والقمري يسجع ، والغنم يثغو ، والبقر يخور ، وكل أليف يدعو أليفه . كل شيء يشعر بالحياة وينسي هموم الحياة ، ولا يذكر إلا سعادة الحياة ، فإن كان الزمان جسدا فأنت روحه ، وإن كان عمرا فأنت شبابه .
ها أنت بسحرك العجيب ، استطعت أن تجعل من الشمس حائكا نساجا يحوك أجمل الروض ويوشِّيه ، ويُبدع في النقش والألوان والتصوير ، فإذا الدنيا كلها جمال ألوان ، وجمال تصوير ، يقلده أكبر فنان فيفشل ، ويُحاكيه أكبر مصور فيعجز ، جعلت الدنيا ملء العيون بما أبدعت من ألوان وما مايلت من أغصان وما حِكت من وشي وما صُغت من جمال : فأبيض ناصع ، في أخضر ناضر ، وتعاريج سوداء ، في زهرة صفراء أو بيضاء ، وأشكال مهندسة تأخذ باللب . الربيع ( 2 )
وكما جعلت الدنيا ملء العين ، جعلتها ملء السمع ، فرأت الأطيار ما وشَّيْتَه في أرضك ، فحرك أشجانها ، وأطلق أصواتها ، وجعلت منها موسيقى مختلفة النغمات ، متعددة الأصوات : هذا البلبل يُغني ضاحكا ، وهذا الحمام يُغني باكيا .
كانت عجماء فأفصحت في أيامك ، وكانت خرساء فأنطقها جمالك ، فوقفت على السرو والدَّوح من خطبائك ، فلما غنت حركت أشجان الإنسان ، وأوحت إليه بالمعاني الحسان ، فأفاض الشعراء في وصفها ، وبكوا لبكائها ، وتغنوا من غنائها .
ثم ها أنت ملأت الجو عطرًا بأزهارك الطيبة ، وثمارك العطرة ، فأنعشت النفوس ، وبعثت الأمل ، فلما خاف الناس من غيبتك ، وانقطاع شذاك ، أمعنوا الفكر في الاحتفاظ برائحتك ، فاستخرجوا الروائح من أزهارك ، وتحايلوا للانتفاع بها في غيابك .
لقد اعتدلت في حرارتك فلم تغلُ في بردك غلو الشتاء ، ولا في حَرِّك غلو الصيف ، فكنت جميلا في جوّك ، كما كنت جميلا في كل شيء من آثارك فليت الزمان كان ربيعا كله .