إنَّ الحمد لله تعالى، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهْد الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فسأقوم في هذا المقال بجمع شرح لحديث: ((إنها
ستكون فتن))، معتمِدًا على قول كِبار شُرَّاح الحديث.
أولاً: نصُّ الحديث:
قال الإمام مسلم - رحمه الله -: حدَّثني أبو كامل الجَحدَري فضيل بن حسين، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عثمان الشَّحَّام، قال: انطلَقتُ أنا وفَرقَد السَّبَخِي إلى مسلم بن أبي بَكرة وهو في أرضه، فدخلنا عليه فقلنا: هل سمعت أباك يحدِّث في الفتن حديثًا؟ قال: نعم، سمعت أبا بكرة يحدِّث، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنها
ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعدُ فيها خيرٌ من الماشي فيها، والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقَعت، فمن كان له إبل فليَلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليَلحق بغنمه، ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه))، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟ قال: ((يَعمِد إلى سيفه فيَدقُّ على حده بحجر، ثم لينجُ إن استطاع النَّجاء، اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أُكرِهت حتى ينطلَق بي إلى أحد الصَّفين، أو إحدى الفئتين، فضرَبني رجل بسيفه، أو يجيء سهمٌ فيقتلني؟ قال: ((يبوء بإثمه وإثمِك، ويكون من أصحاب النار))؛ أخرَجه مسلم.
مقتَطفات من الشروح:
يقول محمد فؤاد عبدالباقي: "((يَعمِد إلى سيفه، فيَدق على حدِّه بحجر)): قيل: المراد كسر السيف حقيقة على ظاهر الحديث؛ ليَسُدَّ على نفسه باب هذا القتال، وقيل: هو مجاز، والمراد به ترْك القتال، والأول أصح، ((يَبوء بإثمه وإثمك)): معنى (يبوء بإثمه): يَلزَمه ويرجِع به ويتحمَّله؛ أي: يبوء الذي أكرَهك بإثمه في إكراهك وفي دخوله في الفتنة، وبإثمك في قتلِك غيره.
قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار؛ قال القاضي: ثم صارت في عُرف الكلام لكل أمرٍ كشَفه الاختبار عن سوء؛ قال أبو زيد: فتِن الرجل يُفتَن فتونًا: إذا وقَع في الفتنة، وتحوَّل من حال حسنة إلى سيئة".
قال ابن حجر في الفتح: "قال الراغب: أصل الفِتَن إدخال الذهب في النار؛ لتظهر جودته من رداءته، ويُستعمَل في إدخال الإنسان النار، ويُطلَق على العذاب كقوله: ﴿ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ ﴾ [الذاريات: 14]، وعلى ما يَحصُل عند العذاب كقوله تعالى: ﴿ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ﴾ [التوبة: 49]، وعلى الاختبار كقوله: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا ﴾ [طه: 40]، وفيما يُدفَع إليه الإنسان من شدة ورخاء، وفي الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالاً؛ قال تعالى: ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ [الأنبياء: 35]، ومنه قوله: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ [الإسراء: 73]؛ أي: يوقِعونك في بَليَّة وشدة في صرْفك عن العمل بما أُوحي إليك، وقال أيضًا: الفتنة تكون من الأفعال الصادرة من الله ومن العبد؛ كالبَليَّة والمصيبة والقتل والعذاب والمعصية وغيرها من المكروهات، فإن كانت من الله، فهي على وجه الحكمة، وإن كانت من الإنسان بغير أمْر الله، فهي مذمومة؛ فقد ذمَّ الله الإنسان بإيقاع الفتنة كقوله: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 191]، وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ﴾ [البروج: 10]، وقوله: ﴿ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ﴾ [الصافات: 162]، وقوله: ﴿ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ﴾ [القلم: 6]، وكقوله: ﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ ﴾ [المائدة: 49]، وقال غيره: أصل الفتنة الاختبار، ثم استُعمِلت فيما أخرَجته المحنة والاختبار إلى المكروه، ثم أُطلِقت على كل مكروه أو آيل إليه؛ كالكفر، والإثم، والتحريق، والفضيحة، والفجور وغير ذلك".
قال النووي: "قوله: (أرأيتَ إن أُكرَهتُ حتى يُنطلَق بي إلى أحد الصفين، فضرَبني رجل بسيفه أو يجيء سهم فيَقتلني؟)، قال: ((يبوء بإثمه وإثمك، ويكون من أصحاب النار)): معنى يبوء به: يَلزَمه ويرجِع به ويتحمله؛ أي: يبوء الذي أكرَهَك بإثمه في إكراهِك وفي دخوله في الفتنة، وبإثمك في قتلك غيره، ((ويكون من أصحاب النار))؛ أي: مستحقًّا لها، وفي هذا الحديث رفْع الإثم عن المُكره على الحضور هناك، وأمَّا القتل، فلا يُباح بالإكراه، بل يأثَم المُكرَه على المأمور به بالإجماع، وقد نقَل القاضي وغيره فيه الإجماع".
قال أبو الحسن نور الدين الملا الهروي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح": "((إنها))؛ أي: القصة (ستكون) أي: ستوجد وتحدُث وتقع فِتن، ((ألا)): للتنبيه ((ثم تكون فتنة))؛ أي: عظيمة، وفي بعض النُّسخ المصحَّحة: ((ألا ثم تكون فتن)) بصيغة الجمع، ثم بعده: ((ألا ثم تكون فتنة)) بصيغة الوَحدة.
قال الطيبي - رحمه الله -: فيه ثلاث مُبالَغات، أُقحِم حرف التنبيه بين المعطوف والمعطوف عليه؛ لمزيد التنبيه لها، وعطْف بثُم؛ لتراخي مرتبة هذه الفتنة الخاصة؛ تنبيهًا على عِظمها، وهو لها على أنه من عطْف الخاص على العام؛ لاختِصاصها بما يُفارِقها من سائر أشكالها، وأنها كالداهية الدهياء، نسأل الله العافية منها بفضله وعميم طَوله.
((القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي إليها))؛ أي: يجعلها غاية سعيه، ومُنتهى غرَضه، لا يرى مَطلبًا غيرها و(لام) الغرض و(إلى) الغاية مُتقارِبان معنى، فحينئذٍ يستقيم التدرُّج والترقي من الماشي فيها إلى الساعي إليها.
((ألا)): للتنبيه زيادة للتأكيد ((فإذا وقَعت))؛ أي: الفِتَن أو تلك الفتنة ((فمن كان له إبل))؛ أي: في البَرِّيَّة ((فليَلحَق بإبله، ومن كان له غنم، فليَلحَق بغنمه، ومن كانت له أرض))؛ أي: عقار أو مزرعة بعيدة عن الخلق، ((فليَلحق بأرضه))؛ فإن الاعتزال والاشتِغال بخويصة الحال حينئذٍ واجبٌ؛ لوقوع عموم الفتنة العمياء بين الرجال، كما قال الشاعر:
إنَّ السَّلامةَ من ليلى وجارتِها
ألاَّ تمرَّ على حالٍ بِوَادِيهَا
(فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت)؛ أي: أخبِرني، (من لم تكن له إبل ولا غنم ولا أرض؟)؛ أي: فأين يذهَب أو كيف يفعل؟ (قال: ((يَعمِد))، بكسر الميم؛ أي: يَقصِد ((إلى سيفه))؛ أي: إن كان له، ((فيَدقُّ على حده))؛ أي: فيَضرب على جانب سيفه الحاد، ((بحجر))، والمعنى: فليَكسِر سلاحه؛ كيلا يذهب به إلى الحرب؛ لأن تلك الحروب بين المسلمين، فلا يجوز حضورُها، ((ثم ليَنْجُ))، بكسر اللام ويُسكَّن، وبفتح الياء وسكون النون وضمِّ الجيم، أي: ليَفِر ويُسرِع هربًا؛ حتى لا تُصيبه الفِتنة، ((إن استطاع النجاء)) بفتح النون والمد؛ أي: الإسراع، قال الطيبِي - رحمه الله - قوله: يَعمِد.. إلخ: عبارة عن تجرُّده تجرُّدًا تامًّا، كأنه قيل: من لم يكن له ما يَشتغِل به من مهامه، فليَنجُ برأسه ا. هـ.
((اللهم))؛ أي: قال - صلى الله تعالى عليه وسلم - بعد ذِكر هذه الفتن والتحذير عن الوقوع في مَحنِ ذلك الزمن: ((اللهم))؛ أي: يا ألله ((هل بلَّغت؟))؛ أي: قد بلَّغتُ إلى عبادك ما أمَرتني به أن أبلِّغه إياهم (ثلاثًا): مصدر للفعل المقدَّر؛ أي: قاله ثلاث مرات، (فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت)؛ أي: أخبِرني (إن أُكرِهت)؛ أي: أُخِذت بالكُره وأُجبِرت (حتى يُنطلَق) بصيغة المجهول؛ أي: يُذهَب (بي إلى أحد الصفَّينِ)؛ أي: صفَّي المتخاصمين، (فضربني رجل بسيفه) (أو): للتنويع (يجيء سهم) بصيغة المضارع عطفًا على الماضي، (فيَقتلني؟): الظاهر أنه تفريع على الأخير والإسناد مجازي، ويُحتمل أن يشتمل أيضًا على الأول، فتأمَّل، والمعنى: فما حُكْم القاتل والمقتول؟ (قال: ((يبوء))؛ أي: يرجِع القاتل، وقيل: المُكْره ((بإثمه))؛ أي: بعقوبة ما فعَله من قبلُ عمومًا، ((وإثمك))؛ أي: وبعقوبة قتْله إياك خصوصًا، أو المراد بإثمه قصْده القتل، وبإثمك لو مدَدت يدك إليه، أو المراد بإثمك سيئاتك التي فعَلتها بأن توضَع في رقبة القاتل بعد فقْدِ حسناته على ما ورَد، ((ويكون))؛ أي: هو ((من أصحاب النار))؛ قال تعالى: ﴿ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ ﴾ [المائدة: 49]".
يُستفاد من هذ الحديث كما يقول الدكتور وجيه الشيمي:
أ- بيان عِظَم خطر الفتن، والحث على تجنُّبها والهرب منها.
ب- بيان عظم جُرم من اعتدى على أخيه المسلم بالسيف.
وأرى أن أكبر استفادة قد نِلْناها من هذا الحديث هي: معرفة مدى خوف النبي -صلى الله عليه وسلم- علينا ورحمته بنا؛ لذا يُحذِّرنا من التعرض والوقوع في الفتن، ويصِف لنا العلاج الناجع لتجنُّب الفتن، وكيف لا وهو مَن أرسله ربُّه رحمة للعالمين؟