إن خصيصة التدرج وثيقةُ الصلة بالربوبية،
فهي سنة الله تعالى في الخلق والتكوين مع قدرته المطلقة
أن يفعل ما يشاء، ويخلق ما أراد بكلمة واحدة، قال تعالى:
إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]،
ولكن الحكمة من ذلك أن الله تعالى يعلمنا التدرج في كل شيء؛
ليكون العمل قائمًا على أسس راسخة، ويكون البناء متينًا ومحكمًا،
فالإحكام من ثمرات التدرج، يقول صاحب كتاب
(من مرتكزات الخطاب الدعوى في التبليغ والتطبيق):
يتدرَّج الخالق القدير على الإنشاء والتكوين،
دونما عناء وتعب، ودونما حاجة إلى تخطيط أو تفكير،
ولا إلى وقت أو زمن يتدرج في خلق السموات والأرض،
ويتدرج في خلق الإنسان وفي كل ذلك تنبيه للدعاة والمصلحين
أنه ما من بناء لا يراعَى فيه التدرج
ولا ينشأ على خطوات ومراحل، إلا انهدم على أهله،
وانهد على صاحبه)[1]قلت: وفي قوله تعالى:
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس: 5]،
وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
[الأنبياء: 32] إشارة واضحة إلى أن السماء لم تخلق في لحظة واحدة
وبدون أساس؛ لأنه ما من بناء إلا ويقوم على قواعد ثم تقام الأعمدة،
ثم يبنى السقف، وفي ذلك إشارة إلى خلق الأرض أولاً، ثم
كان خلق السماء، وتفصيل ذلك في سورة فصلت، يقول - عز وجل
- قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا
ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا
أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ
فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ
* فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا
وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا
ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 9 - 12]، وعادة ما يكون التزيين
والتحسين بعد تمام البناء في الآيات السابقة يُبيِّن الله تعالى
أنه لم يخلقِ السمواتِ والأرضَ في لحظةٍ واحدة، ولكن على مراحل،
بدليل كلمة (ثم) التي تفيد الترتيب والتراخي، فكان ذلك على تقدير
من الله تعالى وعلى تمهُّل ويقول الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآيات:فذكر أنه خلق الأرض أولاً؛ لأنها كالأساس،
والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده السقف، كما قال تعالى
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة: 29][2]ومن هنا يتبين لنا ما يلي:
أولاً: تبين الآيات أن خلق السموات والأرض وإعداد الأرض
للحياة الإنسانية تم على مراحل؛ وهي:
المرحلة الأولى: خلق الأرض في يومين.
المرحلة الثانية: إعداد الأرض للحياة الإنسانية
(خلق الجبال والأنهار، وتقدير الأقوات).
المرحلة الثالثة: خلق السموات.
ثانيًا: تبيَّن مما ذكره ابن كثير - رحمه الله - أن الله تعالى بدأ
بخلق الأرض أولاً؛ لأنها الأساس، والأصل أن يبدأ بالأساس ثم بعده
الأعمدة والسقف، وهذا يتفق مع ما يدل عليه قوله تعالى:
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا[الشمس: 5]، كما سبق بيانه،
وهذا ما توصل إليه العلم الحديث إن الأرض هي مركز الكون[3]،
ومن هنا تأتي أهمية الأرض، فهي الأهم، فكان البَدْء بالأرض،
كذلك فإن المقصود بالأرض في الآية قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ
بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ [فصلت: 9]، هي الأرض التي نعيش عليها؛
لأن الألف واللام في (الأرض)
هي للعهد[4]، فهي إذًا أرض الدعوة ومحل التكليف، وهذا تدرج.
ثالثًا: قوله تعالى: ï´؟ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ï´¾، يُبيِّن أن أمر الخلق
كان بتقدير، والتقدير والقدرة من صفات الله عز وجل،
جاء في مختار الصحاح:"قَدْر الشيء: مبلغه،
والقَدَرَ والقَدْر: ما يقدره الله من القضاء،
وقَدَرَ الشيء؛ أي: قدَّره؛ مِن التقدير"[5]فهذه المعاني لكلمة تقدير
تُوضِّح أن عملية الخلق والإعداد كان بتروية وتمهل وإعداد، والبدء بالأهم
ثم المهم، وبناء القاعدة ثم الأعمدة ثم السقف، وهذه سِمة كل بنيان؛
ليعلمنا الله تعالى الإعداد لكل شيء والتمهل، وكيف يكون البدء والخطوة
الأولى ثم التي تليها، وتلك من معاني التدرج.
الحكمة من خلق السموات والأرض بالتدرج.
إنه ما من بناء محكم يراد له البقاء والنفع، وتمتد جذوره في أعماق الأرض،
وترتفع أعمدته في عنان السماء، إلا ويحتاج إلى أمرين:
الأول: الإعداد والإحكام والتمهل.
الثاني: البدء بالأهم ثم المهم.
يقول الله - عز وجل هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[البقرة: 29]، هذه الآية يُفسِّرها قوله تعالى في سورة فصلت:
قُلْ أَإِنَّكُمْ التي سبق الحديث عنها.
ويقول الإمام الفخر الرازي:
"اعلم أن هذه هي النعمة الثانية التي عمَّت المكلَّفين بأسرهم،
وما أحسن ما راعى الله - سبحانه وتعالى - هذا الترتيب؛ فإن الانتفاع
بالأرض والسماء إنما يكون بعد حصول الحياة[6]،
فلهذا ذكر الله أمر الحياة
أولاً، ثم أتبعه بذكر السماء والأرض"[7]وجاء بعد قوله تعالى:
ï´؟ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ ï´¾ قولُه تعالى: ï´؟
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
[البقرة: 30]، فجاء خلق الإنسان بعد خلق الأرض،
ثم إعدادها للحياة، ثم خلق السموات، فيكون الترتيب كما يلي:
1- خلق الأرض.
2- خلق الجبال والأنهار وتقدير الأقوات.
3- خلق السموات.
4- خلق الإنسان (خلق من الأرض).
فكان خلق الأرض أولاً، ثم إعدادها للحياة، ثم كان خلق السموات
التي تعد سقفًا للأرض، ولا يمكن بناء السقف قبل بناء الأساس والأعمدة،
ثم كان خلق الإنسان؛ لأنه لا إنسان بغير أرض، ولأن كل ذلك مخلوق
من أجله هو، وهذا ترتيب وتقدير من العزيز العليم؛ لنعلم أن التدرج
قاعدة ربانية، وطريقة إلهية، وسنة كونية.
[1] كتاب الأمة العدد 56 للمؤلف عبدالله الزبير ص 115.
[2] تفسير ابن كثير، مكتبة التراث الإسلامي - حلب 1980م - جزء 4 ص 92.
[3] د. زغلول النجار فى مقال جريدة الأهرام 30/12/2002 ص 12؛
حيث أثبت أن الكعبة مركز الأرض، والأرض مركز الكون.
[4] الإسلام في عصر العلم؛ د. محمد الغمراوي، طبعة 4، 1991م - ص 241.
[5] مختار الصحاح ص 460.
[6] إشارة إلى الآية السابقة، وهي قوله تعالى:
ï´؟
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ï´¾ [البقرة: 28].
[7] مفاتيح الغيب جزء 1 - ص 564.