تمر السنون والأعوام، وتظل السيرة النبوية بأحداثها ومواقفها نبراساً يضيء لنا الطريق في التربية والتعليم، والعزة والتمكين، لما تحمله بين ثناياها من مواقف تربوية كثيرة تضع للدعاة والآباء والمعلمين والمربين المنهج القويم في التربية، والأسلوب الأفضل في التعليم، فنبينا صلى الله عليه وسلم كان نِعْمَ المُرَبِّي والمُعَلِّم، بل أفضل مُرَبًّ ومعلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً) رواه مسلم، وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: (بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّياه (وافَقْد أمي لي)، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -فبأبي هو وأمي- ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني (ما نهرني ولا عبس في وجهي)، ولا ضربني ولا شتمني، قال صلى الله عليه وسلم: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) رواه مسلم.
قال النووي: " فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخُلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم...وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه".
وكان صلوات الله وسلامه عليه في تعليمه وتربيته لأصحابه ينتقل من أسلوبٍ إلى آخر، مراعياً حال المخاطَب، فكان يلجأ في بعض الأوقات ووفقاً لواقع الحال إلى استخدام أساليب مناسبة أسلوب الحوار والمناقشة، أو ضرب الأمثال والتشبيه، واستخدام القصة، والتعبير بحركة اليد والرسم، ورفع وإظهار المُتَحَدَّث عنه، والتعليم العملي بفعل الشيء أمام المُتَعَلِّم، واستخدام أسلوب الترغيب والترهيب على حسب الحال، حرصاً منه صلى الله عليه وسلم على أن تنتقل توجيهاته الكريمة وتعاليمه النبوية من مرحلة القول إلى مرحلة الفهم الصحيح والتطبيق والفعل للمتعلم.
ومن هذه الأساليب النبوية في تعليمه وتربيته: أسلوب
التعليم والتربية من خلال طرح السؤال ليجيب عنه المُخَاطَب إنِ استطاع، أو ينتظر ليسمع الإجابة منه صلى الله عليه وسلم، أو السؤال عن بعض المعاني المعروفة للمتعلم، وحينما يخبر بما يعرفه يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى آخر لهذا السؤال، ليترسخ في عقل وقلب المُعَلَّم والمُرَبَّى المعنى المقصود منه صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من باب الملاطفة وزيادة العلم وحُسْن التربية، ولذلك خصص البخاري باباً في "صحيحه" في أول كتاب العلم تحت عنوان: "باب طرح الإمام المسألة ليختبر ما عندهم من العلم".
والمواقف النبوية الدالة على أسلوبه في تعليمه لأصحابه
بالسؤال كثيرة، منها:
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مَثَلُ المسلم، حَدِّثوني ما هي؟! فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبد الله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله أخبرنا بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي النخلة، قال عبد الله: فحدَّثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا) رواه البخاري. وفي هذا الموقف والسؤال من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه فوائد كثيرة منها:
ـ حُسْن تعليمه لهم، حيث ألقى عليهم المعنى والمعلومة المراد تعليمهم إياها، على هيئة سؤال ليجعلهم يفكرون لمعرفة الإجابة، فإذا عجزوا عن الإجابة كانوا أشد اشتياقاً لمعرفة الجواب، وهذا يحقق فائدة اكتساب العلم، وترسيخ المعنى على أفضل وجه، بالإضافة إلى دفع الملل عن المتعلم، الذي قد يحدث إذا كان أسلوب
التعليم يسير على وتيرة واحدة، إضافة إلى ما يحققه هذا أسلوب السؤال من إدخال النشاط والسرور والبهجة في نفوس المتعلمين.
ـ ما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلم الصغير مع الأكبر منه ِسنَّاً، من أدب وتوقير وعدم إكثار من الكلام، إذا لم يترتب على عدم الكلام كتمان علم، أو تفويت مصلحة، فإن ظهرت مصلحة وفائدة لتكلم الصغير، فيجب عليه أن يراعي آداب الحديث المعروفة، فابن عمر رضي الله عنه قد سمع السؤال الذي ألقاه النبي صلى الله عليه وسلم على مسامع كل الحاضرين، ولم يخص بها الكبير دون الصغير، وقد علم إجابته، وكان هناك مصلحة أن يجاوب الرسول صلى الله عليه وسلم ليظهر فضله ويقر عين الرسول صلى الله عليه وسلم بما عليه أبناء الصحابة من علم وفكر، إلا أنه مع كل ذلك، آثر السكوت كراهية للتكلم في حالة سكوت أبي بكر وعمر مراعياً فضلهما وكبرهما رضي الله عنهما، ففي رواية للبخاري قال ابن عمر: (ورأيتُ أبا بكرٍ وعُمَرَ لا يتكلمان فكَرِهتُ أن أتكلم).
ـ حرص الآباء على إظهار فضل أولادهم، خاصة في حضرة أهل الفضل لا حرج فيه، بل هو أمر مطلوب في تربية الأبناء، ولذا قال عمر رضي الله عنه لابنه عبد الله: (لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا). قال ابن حجر: "فيه التحريض على الفهم في العلم، وينبغي للمُلغَز له أن يتفطَّن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، كما ينبغي للملغِز ألا يبالغ في التعمية، بحيث لا يجعل للمُلغَز باباً يدخل منه، بل كلما قرَّبه كان أوقع في نفس سامعه".
وقال النووي: "وفي هذا الحديث فوائد: منها استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم، ويرغبهم في الفكر والاعتناء. وفيه: ضرب الأمثال والأشباه. وفيه: توقير الكبار كما فعل ابن عمر، لكن إذا لم يعرف الكبار المسألة، فينبغي للصغير الذي يعرفها أن يقولها. وفيه: سرور الإنسان بنجابة ولده، وحسن فهمه، وقول عمر رضي الله عنه: "لأن تكون قلتَ هي النخلة أحب إليَّ من كذا وكذا"، أراد بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو لابنه، ويَعلم حسن فهمه ونجابته".
ومن المواقف النبوية في
التعليم والتربية من خلال السؤال: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم: إن المفلس من أمتي مَنْ يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وَسَفَك دم هذا، وضرب هذا، فيُعْطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أُخِذَ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرِح في النار)، وفي رواية ابن حبان: (أتدرون من المفلسُ؟).
قال ابن عثيمين: "قوله: (أتدرون ما المفلس؟) الاستفهام هنا للاستعلام الذي يُراد به الإخبار؛ لأن المستفهِم تارة يستفهم عن جهل، ولا يدري فيسأل غيره، وتارة يستفهم لتنبيه المُخَاطَب لما يُلْقَى إليه، أو لتقرير الحكم". وقال الطيبي: "وهذا سؤال إرشاد لا استعلام".
وقال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا) إلى آخره، معناه: أن هذا حقيقة المفلس، وأما من ليس له مال ومن قلَّ ماله فالناس يسمونه مفلساً، وليس هو حقيقة المفلس؛ لأن هذا أمر يزول وينقطع بموته، وربما ينقطع بيسار يحصل له بعد ذلك في حياته، وإنما حقيقة المفلس هذا المذكور في الحديث، فهو الهالك الهلاك التام، فتؤخذ حسناته لغرمائه، فإذا فرغت حسناته أُخِذَ من سيئاتهم، فوُضِعَ عليه ثم أُلْقِيَ في النار، فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه".
إن
التعليم بطريق إلقاء السؤال من الوسائل التعليمية والتربوية المهمة؛ حيث ينمي التواصل القوي بين المُعَلِّم والمتعلم، والمُرَبِّي والمُرَبَّى، ولذلك استخدم النبي صلى الله عليه وسلم السؤال في صور ومواقف متعددة لتعليم أصحابه رضوان الله عليهم، مما كان له كبير الأثر في حسن تعليمهم، وتفاعلهم عمليًّا وسلوكيًّا مع المعاني التربوية المقصودة منه صلوات الله وسلامه عليه، وهو ما ينبغي أن يسلكه الآباء والمعلمون والمربون، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21).