يردِّد كثيرٌ من
الناس هذه الجملة من قول الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، ويزعمون أن التهلُكة هي الموت، ويستشهدون بها على وجوب حفظ الإنسان نفسَه من المهلكات التي ترد عليها، ولو في سبيل الطاعات؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف مع المظلومين، وما إلى ذلك من دعائم إقامة الدين، فيقولون لمن قام بشيء منها: لا تفعل ذلك؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]!
وليس هذا هو المرادَ من الآية، بل بالعكس هو المراد؛ وهو ترك الجهاد في سبيل الله، وترك إنفاق المال في سبيل إقامة هذا الدين، والانشغال عن ذلك بملذات الحياة الدنيا.
والعجيب أن هذا الفهم الخاطئ للآية قد شاع وتردد وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يزالون متوافرين؛ فكان من توفيق الله تعالى أن تولَّوْا هم الجواب عن ذلك الزعم؛ وذلك أن بعضَ الصحابة أرادوا أن يركنوا إلى ضَيعاتهم وتجاراتهم ليصلحوها ويتركوا الجهاد في سبيل الله، فحذرهم الله من ذلك في هذه الآية؛ روى أبو داود وغيره عن أسلم أبي عمران قال: حمل رجلٌ من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى التهلُكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحِبْنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نجيًّا، فقلنا: قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونصره، حتى فشا الإسلام وكثُر أهله، وكنا قد آثرناه على الأهلينَ والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، فكانت التهلُكةُ في الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد[1].
وروى الإمام البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنه قال في هذه الآية: "نزلت في النفقة"[2].
ولهذا اتفق أهل العلم من المفسرين والفقهاء وغيرهم على أن الآية واردةٌ في سياق الأمر بالنفقة؛ فعن ابن عباس قال: ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة، أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله.
وقال ابن جرير: "فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن اللهَ نهى عن الإلقاء بأيدينا لِما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة، وهي العذاب، بترك ما لزِمنا من فرائضه؛ فغير جائزٍ لأحد منا الدخول في شيء يكرَهُ الله منا مما نستوجب بدخولنا فيه عذابَه، غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا - أيها المؤمنون - في سبيل الله، ولا تتركوا النفقةَ فيها؛ فتهلِكوا باستحقاقكم بترككم ذلك عذابي..."[3].
ومضمون الآية - كما في ابن كثير -: الأمر بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء، وبذلها فيما يقوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاكٌ ودمار إن لزمه واعتاده، ثم عطَف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]"[4].
وفي التفسير الميسر: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]؛ أي: واستمروا - أيها المؤمنون - في إنفاق الأموال لنصرة دين الله تعالى، والجهاد في سبيله، ولا تُوقِعوا أنفسكم في المهالك بترك الجهاد في سبيل الله، وعدم الإنفاق فيه، وأحسنوا في الإنفاق والطاعة، واجعلوا عملكم كله خالصًا لوجه الله تعالى، إن الله يحبُّ أهل الإخلاص والإحسان.
لكن يبقى السؤال:
أليست الآية دليلًا كذلك على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلُكة؟!
والجواب: بلى؛ فلقد استدل العلماء بهذه الآية أيضًا على النهي عن قتل النفس وإيذائها وإلقائها إلى التهلُكة بأي طريقة من طرق التهلُكة أو الأذى، آخذين بعموم لفظ الآية، وبالقياس الجلي، مقررين بذلك القاعدة الأصولية القائلة: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب".
وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وأما قصرها عليه - قصر الآية على موضوع ترك النفقة في سبيل الله - ففيه نظر؛ لأن العبرةَ بعموم اللفظ"[5].
ويقول الشوكاني رحمه الله: "أي: لا تأخذوا فيما يُهلككم، وللسلف في معنى الآية أقوال، والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فكلُّ ما صدَق عليه أنه تهلُكة في الدين أو الدنيا فهو داخل في هذا، وبه قال ابن جَرير الطبري"[6].
ولذلك ورَد عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه اعتبر مَن يُذنب الذنبَ ثم ييئَس من رحمة الله: أنه ألقى بيده إلى التهلُكة[7].
والجمع بين هذين الفهمين الواردين في الآية - وقد اطلعنا عليهما - أن القعود عن كلِّ ما من شأنه نصرة الدين بحجة هذه الآية، فهو خطأ لا حجة في الآية عليه؛ لأنها تتحدث عن نصرة الدين بما يملِك الإنسانُ وبنفسِه.
وأما ما يكون من تقدير يغلِب الظن فيه أن نصرة الدين غير متحققة، وأن أداء الواجب متعذِّر، وسيترتب عليه هلاك النفس من غير تحقُّق المطلوب في أي صورة من صوره - فلا شك أن الإسلام يرغَبُ بالمرء عن اقتحام المُهلِكات، كمثل هذه الحالة.
ولا يكون ذلك بحمل الآية على ما يحمله
الناس عليها دائمًا من غير قيد أو شرطٍ!
وإلا فماذا نفعل في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((سيدُ الشهداءِ حمزةُ بن عبدالمطلب، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه، فقتله))[8]؟
وهذه الآية مثال قوي لضرورة مراعاة السياق في تفسير الآية؛ فإن هذه الجملة الكريمة: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195] لا يمكن
فهمها مجردةً من سياقها، يقول الشيخ سعيد حوى - رحمه الله - في كتابه: "الأساس في التفسير": "وأما النهي عن إهلاك النفس، فإذا نظرنا إلى النص مجردًا كان له معنى، وإذا نظرنا إليه من خلال الآية التي هو فيها أعطانا معنى آخر، وإذا نظرنا إليه أنه جزء من السياق أعطانا معنى جديدًا، وكل هذه المعاني مرادة، وكلها قد ذكرها أئمة التفسير عند شرح الآية.
1- فإذا نظرنا إلى النص مجردًا فهمنا منه أنه نهي عن قتلنا أنفسنا؛ أي: لا تقتلوا أنفسكم بأيديكم، كما يقال: أهلك فلان نفسه بيده، إذا تسبب في هلاكها، وهل يدخل في ذلك لو أن الإنسان أمر المسلمين بمعروف أو نهاهم عن منكر فقتلوه؟
الجواب: لا، بل هو مأجور.
نص على ذلك فقهاء الحنفية، وهل يدخل في إلقاء النفس إلى التهلُكة لو أن إنسانًا هجم على الكافرين ملقيًا نفسه عليهم فقتلوه؟ قال الحنفية: إن كان بعمله هذا يُنكي فيهم ويلقي الرعبَ في قلوبهم فهو مأجور، ولا يدخل في النهي، وإن كان لا يُنكي فيهم بل يزيد من جرأتهم على المسلمين، فلا يحل له ذلك، ويدخل في النهي.
2- وإذا نظرنا إلى هذا النهي ووروده بعد الأمر بالإنفاق، فهمنا منه أنه نهيٌ عن ترك الإنفاق في سبيل الله؛ لأنه سبب للهلاك، ذهب إلى ذلك كثير؛ أخرج البخاري عن حذيفة في الآية قال: نزلت في النفقة، وقال ابن عباس في الآية: ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة، أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله، ولا تلقي بيدك إلى التهلُكة، وعن الضحاك بن أبي جبيرة قال: كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سَنَة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله، فنزلت: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، وقال الحسن البصري: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾: قال: هو البخل.
3- وإذا نظرنا إلى هذا النهي من خلال وروده بعد
آيات القتال، فهمنا منه أنه نهي عن ترك الجهاد، وأن ترك الجهاد هو الهلاك، وهكذا فسرها أبو أيوب الأنصاري، وقد لاحظنا أن هذه الاتجاهات الثلاثة الرئيسية في فهم هذا النص سببها ملاحظة النص مجردًا، أو السياق القريب، أو السياق العام، وهذا قد يكون أبرز مثال من خلال كلام أئمة التفسير لما حاولنا إبرازه سابقًا من أن هذا القرآن معانيه لا تتناهى، فمن خلال المعنى المجرد للنص، ومن خلال السياق القريب والسياق العام، والوحدة القرآنية، ومن خلال عبارة النص، ومن خلال إشارة النص - تتولد معانٍ لا تتناهى، وكل يأخذ من كتاب الله على قدر ما قسمه الله له، وهذه المعاني كلُّها حق، فما أكثرَ جنايةَ مَن كفَر بهذا القرآن!
وهناك اتجاهان آخران في فهم قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، اتجاه يفهم من خلال النص المجرد، واتجاه من خلال السياق القريب.
الاتجاه الأول: تفسير الهلاك بالهلاك الأخروي، وذلك بالذنب والاستمرار عليه، وهو تفسير النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: إنها في الرجل يُذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلُكة؛ أي: يستكثر من الذنوب فيَهلِك، وكذلك فسرها البراء، قال: ولكن التهلُكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلُكة ولا يتوب.
والاتجاه الثاني: ذكره النسفي من جملة الأقوال في تفسير النهي في الآية، فقال: والمعنى: النهي… عن الإسراف في النفقه حتى يُفقِر نفسَه ويضيع عياله، وكأنه أخذه من السياق، ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، والإحسان فسَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))، والإحسان فعل الحسن والأحسن، فالأمر بالإحسان هنا يقتضي أن ننفق، وأن نجاهدَ، وأن يكون ذلك بإتقان وإحسان مع الإخلاص لله والمراقبة[9].
[1] رواه أبو داود والنسائي والترمذي، والحديث صححه العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة.
[2] رواه البخاري (4244).
[3] جامع البيان للطبري (2/50).
[4] تفسير ابن كثير(1/530).
[5] فتح الباري (8/185).
[6] فتح القدير (1/193).
[7] أخرجه ابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح، كما في "فتح الباري" (8/33).
[8] رواه الحاكم - وصححه - والخطيب، وصححه الألباني.
[9] الأساس في التفسير للأستاذ سعيد حوى رحمه الله (1/447).