عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "كُنْتُ غُلاَمًا أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى غُلاَمٍ لَهُ خَيَّاطٍ، فَأَتَاهُ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ وَعَلَيْهِ دُبَّاءٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ[1]" قَالَ: "فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَجْمَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ" قَالَ: فَأَقْبَلَ الغُلاَمُ عَلَى عَمَلِهِ، قَالَ أَنَسٌ: لاَ أَزَالُ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَنَعَ مَا صَنَعَ[2].
من فوائد الحديث:
1- ظاهر هذا الحديث أنه يعارض حديث الأمر بالأكل مما يلي الإنسان، لكن يحمل الجواز في هذا الحديث على:
أ- إذا علم رضا من يأكل معه.
ب- إذا كان الطعام أكثر من لون؛ فيجوز أن يأكل من غير المكان الذي يليه، حيث قال بعض شراح الحديث: بأن طعام النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشتملًا على مرق، ودباء وقديد[3]، فكان يأكل مما يعجبه وهو الدباء، ويترك ما لا يعحبه.
ج- أو أن الطعام كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحده، فلو كان له ولغيره؛ لكان المستحب أن يأكل مما يليه. قال ابن بطال: إن المؤاكل لأهله وخدمه؛ يباح له أن يتبع شهوته حيث رآها؛ إذا علم أن ذلك لا يكره منه، فإذا علم كراهتهم لدلك لم يأكل إلا مما يليه. وقال أيضًا: إنما جالت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الطعام لأنه علم أن أحدًا لا يكره ذلك منه ولا يستقذره، بل كانوا يتبركون بريقه، ومماسة يده، بل كانوا يتبادرون إلى نخامته فيتدلكون بها. فكذلك من لم يتقذر من مؤاكلته يجوز له أن تجول يده في الصحفة. وقال ابن التين: إذا أكل المرء مع خادمه وكان في الطعام نوع منفرد جاز له أن ينفرد به.
2- جواز أكل الشريف طعام من دونه، وإجابة دعوته.
3- تواضع النبي - صلى الله عليه وسلم - ولطفه بأصحابه حيث أكل مع الخادم.
4- حسن معاشرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ شاهد الصغار والخدم، ويزورهم في منازلهم.
5- جواز ترك المضيف الأكل مع الضيف، لأن الخياط قذم لهم الطعام، وأقبل على عمله.
6- إقبال الغلام الخياط على عمله وعدم أكله مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون الطعام قليلًا؛ فآثرهم به، ويحتمل أن يكون مكتفيًا من الطعام، أو كان صائمًا، أو تحتم عليه إكمال شغله.
7- فضيلة ظاهرة لأنس - رضي الله عنه - لاقتفائه أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى في الأشياء الجبلية.
8-
الحرص على
التشبه بأهل الخير، والاقتداء بهم في
المطعم وغيره[4].
9- قيمة كل امرئ ما يحسنه، وهذا الغلام له قيمة ووزن في المجتمع، إذ هو يحسن الخياطة وهذه المهنة في ذلك الزمان عزيزة.
10- حب هذا الغلام لعمله وتفانيه فيه، وإقباله عليه بهمة ونشاط.
11- كرم هذا الغلام، وطيب نفسه ومعرفته بكيفية تقدير الأكابر واحترامهم.
12- ليس عيبًا أن يعمل الإنسان، إنما العيب أن يكون المرء قادرًا على العمل ويبقى عاطلًا، وكلًا على غيره، فهذا الغلام رغم صغر سنه إلا أنه فضل العمل على الكسل.
[1] الدباء: القرع (فتح الباري 1/115).
[2] البخاري 5435، مسلم 2041.
[3] القديد هو: اللحم المملوح المجفف (شرح سنن ابن ماجه، للسيوطي وآخرون 1/238).
[4] من 1- 8 مستفاد من فتح الباري 9/ 524- 526.