تحدَّثنا في الجزء الأول من هذا المقال بفضل الله تعالى عن معنى اسم الله تعالى (البديع)، وكذلك تحدَّثنا عن معنى (الإبداع البشري)، وبعد ذلك تمَّ الحديث عن مجالات خمس من مجالات الإبداع؛ نختصرها في: (الإبداع في وضع الخِطط - الإبداع في صياغة الكلمات - الإبداع في صياغة الحَرَكات - الإبداع في صياغة الشِّعارات والإشارات - الإبداع في الردود على المُحاورين والمُناظرين).
وبقي لنا بفضل الله تعالى أن نتحدَّث في الجزء الثاني والأخير عن: (الإبداع في اتِّخاذ القرارات - الإبداع في الأفكار والاقتراحات) ثم نَختِم بـ(ضوابط وتوصيات).
6- والذي يتمكَّن من اتِّخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب فهو من المبدعين.
أ) مثلما فعل الصحابيُّ الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه في غزوة مؤتة؛ فقد روى البخاريُّ عن خالدِ بن الوليد قال: "لقد انقطعَتْ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقِيَ في يدي إلا صفيحة يَمانِيَّة"، وفي لفظ آخر: "لقد دقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، وصبرَتْ في يدي صفيحةٌ لي يمانِيَّة"، وكان مِن المستغرَب أن ينجح هذا الجيشُ الصغير في الصمود أمام ذلك الجيش الكبير من الروم، ففي ذلك الوقت أظهَرَ خالد بن الوليد مهارتَه في تخليص المسلمين مما لَقُوه في تلك المعركة؛ ويظهر الإبداع الحقيقيُّ من القائد الفذِّ خالد بن الوليد عندما نجح في الصمود أمام جيش الروم طَوال اليوم، وكان يشعر بحاجة ماسَّة إلى مَكِيدَة حربيَّة تُلقي الرعب في قلوب الروم؛ حتى ينجح في الانحياز بالمسلمين من غير أن يقوم جيشُ الروم بمطاردة جيش المسلمين، فقد كان يعرف جيدًا أن الإفلات من براثِنهم صعبٌ جدًّا لو انكشف المسلمون، واعتَمد خالدُ في خُطته على الحرب النفسية؛ حيث أمر عددًا من الفرسان بإثارة الغبار خلف الجيش الإسلامي، وأن تعلو أصواتهم بالتكبير والتهليل وقام كذلك بتبديل الرايات، وغيَّر أوضاع الجيش، وعبَّأه من جديد، فجعل مقدِّمتَه سَاقَةً، ومَيْمَنَته مَيْسَرَة، فلما رآهم الأعداء أنكروا حالهم، وقالوا: جاءهم مددٌ؛ فرُعِبوا، وسار خالد بعد أن تراءى الجيشان، وهَجَم على الروم وقاتل حتى وصلوا إلى خَيْمة قائد الروم، ثم أَمَر خالد بانسحاب الجيش بطريقة مُنظَّمة، وأخذ يتأخَّر بالمسلمين قليلًا قليلًا، مع حِفظ نظام جيشه، ولم يتبعهم الرومان؛ ظنًّا منهم أنَّ المسلمين يخدعونهم، ويُحاولون القيام بمَكِيدة ترمي بهم في الصحراء، ولم يَتْبعُوا خالدًا في انسحابه... وهكذا انحاز العدوُّ إلى بلاده، ولم يُفكِّر في القيام بمُطارَدة المسلمين، ونجح المسلمون في الانحياز سالمين، حتى عادوا إلى المدينة.
ب) ومثلما فعل الصحابيُّ الجليل عمرو بن العاص مع أَرْطَبُون الروم في موقعة أَجَنادَيْن؛ (كلمة "أَرْطَبُون" كلمة أعجمية، تعني عند العرب "أم الدواهي")؛ فلقد ذهبَ عمرو بن العاص بنفسه ليتقصَّى أخبارَ الروم، ويقوم بعملية استخباراتية؛ جاء في البداية والنهاية: "وأقام عمرٌو على أجنادين لا يقدر من الأَرْطَبون على سقطة، ولا تُشفِيه الرُّسُل، فوَلِيَه بنفسه، فدخل عليه كأنه رسول، فأبلغه ما يُريد، وسَمِع كلامه، وتأمَّل حضرته، حتى عَرَف ما أراد، وقال الأَرْطَبُون في نفسه: والله إن هذا لَعمرٌو، أو إنه الذي يأخذ عمرٌو برأيه، وما كنت لِأُصيب القومَ بأمر هو أعظمُ مِن قَتْله، فدعا حَرَسِيًّا، فَسَارَّهُ، فأَمَره بفَتْكه، فقال: اذهبْ فقُمْ في مكان كذا وكذا، فإذا مرَّ بك فاقتُلْه، ففَطِنَ عمرُو بن العاص، فقال للأَرْطَبُون: أيها الأمير، إني قد سَمِعتُ كلامَك وسَمِعتَ كلامي، وإني واحدٌ من عشرة بعثَنا عُمَر بن الخطاب لنكون مع هذا الوالي لنَشهَد أمورَه، وقد أحبَبْتُ أن آتِيَكَ بهم؛ ليسمعوا كلامَك ويرَوا ما رأيت، فقال الأرطبون: نعم، فاذهبْ فأْتِني بهم، ودعا رجلًا فَسَارَّه، فقال: اذهبْ إلى فلان فرُدَّهُ، وقام عمرٌو فذهب إلى جيشه، ثم تحقَّقَ الأَرْطَبُون أنه عمرو بن العاص، فقال: خَدَعني الرجل، هذا والله أدهى العرب! وبلغَتْ عُمَرَ بن الخطاب، فقال: لله دَرُّ عمرٍو.
7- والذي يأتي بفكرة جديدة أو اقتراح مفيد فهو من المبدعين.
أ) مثلما فعل الصحابيُّ الجليل الحُبَاب بن المُنذِر، وأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بمكان استقرار جيش المسلمين في غزوة بدر.
ب) ومثلما فعل الصحابيُّ الجليل سَلْمان الفارسي، وأشار على النبي صلى الله عليه وسلم بحَفْر الخَنْدق في غزوة الخندق (الأحزاب).
ج) ومثلما فعلَت السيدةُ صَفِيَّة رضي الله عنها في غزوة الخندق (الأحزاب)؛ حيث قتلَت اليهوديَّ الذي أراد أن يَقتحِم حِصن الأطفال والنساء والمرضى والضعفاء، فعندما قتلَت اليهوديَّ بعمود الخيمة جاءتها الفكرة بأن تقوم بقَطْع رأسِه، وأن تُلقِيَها خارج الحِصن؛ فتُوهِم اليهودَ أن هناك من الفرسان مَن يقومون بحماية الحِصن؛ وهكذا أعرضَ اليهود عن اقتحام الحِصن، وفَرُّوا عنه.
د) ومثلما فعل صاحب (النَّقْب)؛ حيثُ كان مَسْلَمَة بن عبدالملك يُحاصِر ذات يوم حِصنًا، واستُعصَى فتحُ الحِصن على الجنود، فوقف مَسْلَمة يَخطُب بينهم ويقول لهم: "أما فيكم أحدٌ يُقْدِم فيحدث لنا نَقْبًا في هذا الحصن؟"، وبعد قليل تقدَّم جنديٌّ مُلثَّم، وألقى بنفسه على الحصن، واحتَمَل ما احتَمَل من أخطار وآلام، حتى أحدَثَ في الحِصن نَقْبًا كان سببًا في فتح المسلمين للحِصن، وعَقِب ذلك نادى مَسْلمة في جنوده قائلًا: "أين صاحب النقب؟"، فلم يُجِبْه أحد، فقال مسلمة: "عَزَمْتُ على صاحب النقب أن يأتِيَ للِقائي، وقد أمرتُ الآذِنَ بإدخاله عليَّ ساعة مجيئه"، وبعد حينٍ أقبلَ نحو الآذن شخصٌ مُلثَّم، وقال له: "استأذن لي على الأمير"، فقال له: "أأنت صاحبُ النقب؟"،فأجاب: "أنا أُخبِركم عنه، وأدلُّكم عليه"، فأدخَلَه الآذنُ على مسلمة، فقال الجنديُّ المُلثَّم للقائد: "إن صاحب النَّقْب يَشترِط عليكم أمورًا ثلاثة؛ ألَّا تبعثُوا باسمه في صحيفة إلى الخليفة، وألَّا تأمُرُوا له بشيء جزاءَ ما صَنَع، وألَّا تسألوه مَن هو"، فقال مَسْلمة: "له ذلك، فأين هو؟" فأجاب الجنديُّ في تواضع واستحياء: "أنا صاحب النقب أيها الأمير"، ثم سارَعَ بالخروج، فكان مَسْلمة بعد ذلك لا يُصلِّي صلاة إلا قال في دعائها: "اللهم اجعلني مع صاحب النَّقْب يوم القيامة ".
هـ) ومثلما فعل محمد الفاتح عند فتح القسطنطينية؛ حيث فوجِئَ أن البيزنطِيِّين قد أغلَقُوا مَضِيق الدَّرْدَنيل بالسلاسل؛ لمَنْع أيِّ أسطول من العبور فَمَا كان منه إلا أنْ أَمَر الجنودَ بإخراج السُّفُن التي تحمل الأسلحة والعتاد إلى الشاطئ، وقاموا بجَرِّها على الألواح الخشبية عبر المرتفعات والجبال، حتى تمكَّنوا من إنزالها مرة أخرى خلف السلاسل، وهنا تمَّت عمليةُ التِفافٍ وهجومٍ مفاجئ، مَكَّنَ المسلمين من فَتْح القسطنطينية بأقل الخسائر الممكنة.
و) ومثلما فعل أحدُ جنود المسلمين في حَرْبهم مع الفرس؛ ورد في تفسير الطَّبري لسورة البقرة؛ الآية 195: "وقد بَلَغني أن عسكر المسلمين لما لَقِيَ الفرس نفرَتْ خيلُ المسلمين من الفِيَلة، فعمد رجلٌ منهم فصَنَع فيلًا من طين وأنَّس به فرسه حتى ألِفه، فلما أصبح لم يَنفُر فرسُه من الفيل، فحَمِل على الفيل الذي كان يَقدُمُها فقِيل له: إنه قاتِلُك، فقال: لا ضيرَ أنْ أُقتَل ويُفتح للمسلمين.
ز) ومثلما حدث يوم اليمامة؛ لما تحصَّنتْ بنو حنيفة بالحديقة، قال رجلٌ من المسلمين: ضعوني في الحَجَفة (يقال للتِّرْس إذا كان من جُلُود ليس فيه خشب ولا عَقَب "حَجَفَةٌ"، والجمع "حَجَفٌ") وألقُوني إليهم، ففعلُوا وقاتَلَهم وحدَه، وفتح الباب.
والنماذج على مر العصور كثيرة، أكثر من أن تُحصى، ومَعِين الإبداع لا يَنضَب، ولن يَنضَب إن شاء الله تعالى طالما وُجِدَ المؤمن الحريص على دينه، المشغول بنُصرته، والمهموم برفع رايته، وكما رأينا أننا استَطَعْنا أن نُحصِي أسماء، فهناك أسماء أخرى عَمِلت في الخفاء، بعيدًا عن الأعيُن والأضواء، فإذا كنا لا نعلمهم فكافِيهم أنَّ الله تعالى يَعلَمُهم، يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتَيْن: "فإن الله إذا أراد بعبد خيرًا سلَبَه رؤيةَ أعمالِه الحسنة من قلبه، والإخبارَ بها من لسانه، وشَغَلَه برؤية ذنبِه، فما يزال نُصب عينَيْه حتى يَدخُل الجنة؛ فإن ما تُقُبِّلَ من الأعمال رُفِع من القلب رؤيتُه، ومن اللسان ذكرُه".
ثالثًا: توصيات لابد منها:
إن
المبدعين هم الثَّرْوة الحقيقية والاستثمار الحقيقيُّ لأيِّ أمة، وإنما تُقاس نهضة الأُمَم بما تمتلكه ممَّن لديهم هذه المَلَكة وهذه الكفاءة، ولذلك يَجِب مراعاةُ عدة نقاط هامة حال تعاملنا مع الإبداع والمبدعين:
1- يجب البحث والتنقيب عن
المبدعين والموهوبين وحُسْن رعايتهم من قِبَل مُختصِّين، وتنمية مهاراتهم، وتوفير كل الإمكانيَّات المادِّية والمعنويَّة لذلك، وَلْنعلمْ أن الإبداع ليس قاصرًا على سِن مُعيَّنة، ولا صِنف مُعيَّن من البشر، وَلْنعلمْ أيضًا أن الباطل لا يَكُفُّ عن تطوير نفسه وتحديث أساليبه، فلا نكون أقل منه شأنًا في هذا المجال؛ فنَخذِل الحق، ونُضعِف قُواه من حيث لا ندري.
2- لا يجب أن نُثقل مَن يتميَّزون في هذا الجانب بأمور يمكن لغيرهم القيام بها، بل يَجِب أن نفرِّغهم لتتفتَّق أذهانُهم، وتنضُج إبداعاتهم.
3- عدم إهمال ما سبق من إبداعات المبدعين، بل يَجِب الاستفادة منها، وتطويرها بما يُواكِب العصر.
4- لا يُشترَط لمَن أتى بفكرة جديدة أن نطالبه بتنفيذها، فنكون بذلك قد أثقَلْنا كاهِلَه، فتَخُور قُواه، وتَفتُر عزيمتُه، بل نُوفِّر له فِرَق العمل المُعاوِنة التي تُعينه على ذلك؛ فالذي جاء بفكرة الخندق لم يُطلَب منه حَفْرُه، كما يجب علينا ألَّا نُسفِّه فكرة مهما كانتْ؛ لأن أحلامَ اليوم هي حقائق الغد.
5- إبعاد المُبدعين عن كافة المشكلات؛ حتى لا نقتُل الموهبة والإبداع بداخلهم.
6- غَرْس الثقة بالنفس لدى المبدعين، وتَقبُّل أفكارهم، والتأكيد على الإيجابية في شخصياتهم، وتقليل الخوف من الفَشَل لديهم؛ ليتمكَّنوا من المُخاطَرة في إبراز الأفكار الابتكارية.
7- إذا لم نُحسن استيعاب وتفقُّد المبدعين، فرُبَّما تَنطفِئ المَلَكة لديهم، أو ربما تتحوَّل إلى جوانب تكون أكثرَ ضررًا وأكثر سلبية، وأول من سيَكتوِي بهذه النار هم مَن قصَّروا في حق المبدع.
8- يجب أن نُوقِن أن أعداء الأمة لهم حِيَلهم وأساليبهم المُلتوِية والماكِرة للتنقيب عن
المبدعين في أيِّ مكان وبأيِّ ثمن؛ للاستفادة منهم، وتسخيرهم لخِدمتهم؛ فيجب ألَّا نكون سببًا فيما يُسمَّى بهجرة العقول أو نَزِيف الأدمِغة.
9- العمل على الارتقاء بمستوى المبدعين، ونقلهم من مستوى الإبداع إلى مستوى العبقرية، وإمدادهم بما يُواجِهه المجتمع من مشكلات، وبما لديه من طُمُوحات؛ ليجعلوا بَوْصَلَةَ إبداعاتهم في هذا الاتجاه.
10- الإبداع من السُّنَن الحسنة والحسنات الجارية التي تُثقِل الموازين، والإبداع نعمة من الله تعالى، تَستوجِب شُكرَ المُنعِم سبحانه وتعالى عليها، ويجب أن نَغرِس في هذه الفِئة المُبدِعة قول الله تعالى: ï´؟ ... وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ï´¾ [البقرة: 255]، وقوله تعالى: ï´؟ ... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ï´¾ [البقرة: 282]، وقوله تعالى: ï´؟ ... نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ï´¾ [يوسف: 76]؛ فالفرد المبدع حين يَعِي ذلك جيدًا لن ترى منه غرورًا ولا تَكبُّرًا، ولن يتوانى ولن يدَّخِر وُسعًا في إبداعاته؛ ليَقِينِه أنه المستفيد الأول قبل الآخَرِين.
تلك عشرة كاملة، يجب أن نَعِيَها جيدًا؛ حتى لا يَجِف نهر العطاء، ولا يَنضَب مَعِين المبدعين.
أسأل الله تعالى أن يُنير بَصَرنا وبصيرتنا وأذهاننا؛ لتُخرِج ما فيه صلاحُنا وصلاحُ أمَّتنا، وأن نُورِّث علمًا يُنتفع به إلى يوم الدين.