الهجرة إلى الحبشة
بسم الله الرحمن الرحيم
الهجرة إلى الحبشة
الهجرة إلى الحبشة يُدرك أصحاب الدّعوات والرّسالات أنّ طريق الدّعوة ليس مفروشاً بالورود والرّياحين، بل يحتاج إلى بذلٍ وتضحيةٍ لتحقيق مراده وتبليغ شرائعه، و
قد ضحّى أنبياءُ الله جميعاً -عليهم السّلام- لأجل هذه الغاية، وهاجر منهم من هاجر، وأوذي منهم من أوذي،
ولم يكن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بِدعاً من الرُّسل، فقد واجه صنوفاً من الأذى من مُشركي قريش في مرحلة الدعوة المكيّة،
كما اجتمعت على أصحابه -رضي الله عنهم- الذين آمنوا بدعوته ابتلاءات كثيرة، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله -تعالى- وما ضعفوا،
بل ثبتوا في كلّ ميادين التّضحية،
وكان الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- يتألّم لألم أصحابه رضي الله عنهم،
ولأجل ذلك وجّههم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- للهجرة إلى الحبشة حتى يأذن الله -سبحانه- بالفرج على الدّعوة وأنصارها؛ فمتى كان ذلك، ولماذا الحبشة على وجه التحديد، وما هي الأسباب التي دعت إلى هذه الهجرة؟ -----------------------------------
لم تكن فكرة الهجرة إلى الحبشة ناشئةً من حاجة اقتصاديّة أو مصلحة سياسيّة، بل كان الهدف الرئيس منها تأمين الحماية لحريّة الدّعوة، وممارسة العبادة على منهج التوحيد، ونبذ الشِّرك،
الأمر الذي ترفضه قريش بقوّة؛
حيث كان المسلمون يواجهون صنوف العذاب والاضطهاد، والصّد عن ممارسة الدعوة والعبادة والطواف حول الكعبة،
كما كانوا يواجهون حرب إبادةٍ وتصفيةٍ جسديّةٍ،
فظهرت الحاجة الماسّة للبحث عن تكوين مُنطلَق آمن يهدف إلى استمرارية الدّعوة وحماية أتباعها،
وكان هذا الخيار الحكيم دليلاً على القيادة الواعية للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-
حيث أحسّ بضرورة تأمين الحماية للمُسلمين الجُدد، وتوفير البيئة الآمنة لضمان استمراريّة الرسالة وتبليغها.
--------------------------------
أسباب اختيار الحبشة
إنّ اختيار النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لأرض الحبشة مكاناً لهجرة المسلمين المُضطهَدين من مكّة يدعو للتّساؤل عن سبب هذا الاختيار، وتظهر الرؤية الثاقبة للنبي -صلّى الله عليه وسلّم- بالحقائق الآتية:
● حاجة المسلمين إلى بلد تُصان فيه حقوقهم الدينيّة، وحُكمٍ لا يُساء فيه إليهم، فكانت الحبشة اختيار النبي -صلّى الله عليه وسلّم- حيث قال:
(إنَّ بأرض الحبشة مَلِكاً لا يُظلَم أحدٌ عنده، فالحقوا ببلادِهِ حتّى يجعلَ اللهُ لكُمْ فرَجاً ومخرَجاً ممّا أنتُمْ فيه). ● الإحساس أنّ أهل الحبشة أكثر تعاطفاً من غيرهم مع المسلمين المُضطهَدين؛ فهم أهل كتاب، وقد أكّد القرآن الكريم على هذا، قال تعالى:
(وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ).
● دولة الحبشة دولة مستقلة لا تتبع لأحد ولا سَطوة لقُوى عظمى عليها، فهي تحكم نفسها بنفسها، وذات قوة سياسيّة واقتصاد قويّ وموارد ماليّة تمنع قريش من التفكير في مهاجمتها أو غزوها،
فأقصى ما فعلته قريش هو إرسالها وفداً رسميّاً تطلب فيه عودة المهاجرين إليها.
● البُعد المكانيّ عن مكة المكرمة شكّل تحديّاً كبيراً أمام كفار قريش لإلحاق الأذى بالمهاجرين المسلمين،
ممّا وفّر الأمن النفسيّ لهم.
---------------------------
موقف قريش من هجرة الحبشة
عجزت قريش عن منع المسلمين من الهجرة إلى الحبشة، وقد وصل عدد المهاجرين إليها سرّاً إلى اثنين وسبعين رجلاً واثنتي عشرة امرأة، عندها جُنّ جنون قريش، وخشيت أن يُفسد وجود المسلمين فيها العلاقات التجاريّة بين قريش والحبشة،
وبرزت مخاوف من قدرة المسلمين على نشر الدّعوة الإسلاميّة فيها،
أو تشكيل حلف عسكري مع الأحباش يُمكّنهم من مهاجمة قريش في مكة؛
فالأحباش قد ساعدوا نصارى اليمن على التخلص من اضطهاد يهود حِمير.
ولهذه الأسباب أرسلت قريش وفداً أمّرت عليه عمْراً بن العاص إلى النّجاشي ملك الحبشة؛
لتشويه صورة المهاجرين من المسلمين بأنّهم خرجوا عن طاعة زعمائهم وقادتهم من قريش، وأتوا بدين جديد يُخالف عقائد آبائهم وأجدادهم،
وحاولوا تأجيج مشاعر النجاشيّ ضدّ المسلمين عندما أخبروه بأنّ دين المسلمين لا يعترف بعقيدة أهل الحبشة في شأن نبيّ الله عيسى وأمّه مريم عليهما السّلام، لكنّ النجاشيّ عندما استمع إلى ردّ المسلمين على ادّعاءات قريش وحاورهم في شأن عيسى -عليه السّلام-
أمر بتوفير الحماية والرّعاية للمهاجرين المسلمين، وردّ وفد المشركين دون تحقيق مُرادهم.
--------------------------------
عِبَر وعِظات من هجرة الحبشة
تظهر أهميّة هجرة المسلمين إلى الحبشة من العِبر والعِظات التي يمكن استخلاصها، منها: ● الثبات والتّمسك بالدّين من أعظم التّضحيات.
●الوطن، والأرض، والنفس، والمال إمكاناتٌ وقِيمٌ ومكتسباتٌ عظيمةٌ، يجب توظيفها في نُصرة الدّين ونشره،
وإقامة الهداية في العالمين.
●الهجرة ومفارقة الأوطان هي بحدّ ذاتها نوع من الألم،
ولذلك فإنّ الهجرة إلى الحبشة لم تكن للبحث عن الدّعاية والراحة، وإنّما هي استراتيجيّة لتمكين الدعوة، وشحذ طاقات المُسلمين الجدد. ● الهجرة إلى الحبشة كسبت تأييد النّجاشي وهو من أهل النصرانيّة الصحيحة، فكان موقفه واضحاً ومؤكِّداً على وحدة العقيدة في الرِّسالات الإلهيّة، وأنّ عيسى ومحمّداً -عليهما الصّلاة السّلام- جاءا بعقيدة التّوحيد ونبذ الشِّرك بالله تعالى،
وتحوّلت هذه القناعات في نفس النّجاشي إلى حقيقة واقعة بعد أن أعلن دخوله في الإسلام.
● جواز دخول المسلم في حماية الكتابيّ أو المشرك إذا دعت الضرورة لذلك؛
شريطة ألّا يؤثّر ذلك على سلامة عقيدته الإسلاميّة، أو يتنازل عن بعض أحكام التّشريع
والله اعلم