قال الشيخ البيقوني في منظومته البيقونية:
أَبْدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّيًا عَلَى ♦♦♦ مُحَمَّدٍ خَيْرِ نَبِيٍّ أُرْسِلَا
قوله: (أَبْدَأُ بِالْحَمْدِ مُصَلِّيًا): قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله بالحمد مصليًّا: نصَبَ مصليًّا على أنه حالٌ من الضمير في أبدأ؛ والتقدير: حال كوني مصليًّا.
ومعنى "الحمد" كما قال العلماء: هو وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيمًا، فإنْ وصفَهُ بالكمال لا محبة ولا تعظيمًا، ولكن خوفًا ورهبة سُمي ذلك مدحًا لا حمدًا؛ فالحمد لابد أن يكون مقرونًا بمحبة المحمود وتعظيمه.
وقول المؤلف بالحمد: لم يذكر المحمود، ولكنه معلومٌ بقرينة الحال، لأن المؤلف مسلمٌ؛ فالحمد يُقْصَدُ به: حمدُ الله سبحانه وتعالى.
ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هو: طلب الثناء عليه من الله تعالى، وهذا ما إذا وقعت الصلاة من البشر، أما إذا وقعت من الله تعالى فمعناها ثناء الله تعالى عليه في الملأ الأعلى، وهذا هو قول أبي العالية، وأما من قال إن الصلاة من الله تعالى تعني الرحمة، فإن هذا القول ضعيفٌ، يضعِّفُه قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 157]، ولو كانت الصلاة بمعنى الرحمة، لكان معنى الآية: أولئك عليهم رحماتٌ من ربهم ورحمة، وهذا لا يستقيم! والأصل في الكلام التأسيس؛ فإذا قلنا: إن المعنى: رحمات من ربهم ورحمة، صار عطف مماثل على مماثل.
فالصحيح هو: القول الأول وهو أن صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى"اهـ[1].
قوله: (مُحَمَّدٍ خَيْرِ نَبِيٍّ أُرْسِلَا): فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء والمرسلين؛ دليل ذلك حديث أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ"[2].
وَذِي مِنَ اقْسَامِ الْحَدِيثِ عِدَّهْ ♦♦♦ وَكُلُّ وَاحِدٍ أتَى وَحَدَّهْ
قوله: (وَذِي مِنَ اقْسَامِ الْحَدِيثِ عِدَّهْ): وذي اسم إشارة لِمَا هو آتٍ من أقسام الحديث.
وقوله: (عدَّة): أي: عدد ليس بكثير.
قوله: (وَكُلُّ وَاحِدٍ أتَى وَحَدَّهْ): أي: سيأتي كُلُّ واحد من هذه الأقسام، وسيأتي حدُّه؛ أي: تعريفه.
أَوَّلُهَا: الصَّحِيحُ وَهْوَ مَا اتَّصَلْ
إِسْنَادُهُ وَلَمْ يَشِذَّ أَوْ يُعَلْ
يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ
مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ
فهذه
شروط خمسة اشترط العلماء توافرها في
الحديث لكي يحكموا عليه بالصحة.
فأما الشرط الأول: فهو اتصال الإسناد: ومعناه أن يكون كل راوٍ من رواة
الحديث قد أخذ
الحديث عن شيخه، وتحمله بطريقة من طرق التحمل المعتبرة؛ كالسماع من الشيخ، أو القراءة عليه، وسيأتي توضيح أكثر لطرق تحمل الحديث.
وإنما اشترط العلماء شرط الاتصال احترازًا من
الحديث الذي سقط من إسناده راوٍ أو أكثر؛ مما يؤدي إلى عدم العلم بعين الراوي الساقط من الإسناد، وبالتالي عدم العلم بحاله؛ هل هو ثقة أم غير ثقة؛ فقد يكون غير ثقة فينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله؛ سواء عن قصد لقلة دين أو عن غير قصد لسوء حفظ.
وأما الشرط الثاني: ألا يكون الحديثُ شاذًّا: وسيأتي معنا تعريف الشذوذ.
والشرط الثالث: ألا يكون
الحديث معلولًا: وسيأتي معنا تعريف العلة.
الشرط الرابع: عدالة الراوي: فلا بد أن يكون راوي
الحديث الصحيح عدلًا؛ وقد اشترط العلماء هذا الشرط احترازًا من تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ غير العدل قد لا يتورع عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد عرف العلماء العدل بأنه: (من كانت له مَلَكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة).
والمقصود: أنْ يكون أغلب أحواله الطاعة، وليس المقصود ألا يقع في الخطأ أبدًا؛ لأنه بشر، والبشر ليسوا معصومين من الخطأ.
قال الشافعي رحمه الله: "فإذا كان الأغلب الطاعة فهو العدل، وإن كان الأغلب المعصية فهو المجرَّح"[3].
بِمَ تثبت عدالة الراوي؟:
قال العلامة ابن الصلاح رحمه الله: "تَارَةً تَثْبُتُ بِتَنْصِيصِ مُعَدِّلَيْنِ عَلَى عَدَالَتِهِ، وَتَارَةً تَثْبُتُ بِالِاسْتِفَاضَةِ، فَمَنِ اشْتَهَرَتْ عَدَالَتُهُ بَيْنَ أَهْلِ النَّقْلِ أَوْ نَحْوِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَشَاعَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ، اسْتُغْنِيَ فِيهِ بِذَلِكَ عَنْ بَيِّنَةٍ شَاهِدَةٍ بِعَدَالَتِهِ تَنْصِيصًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه، وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَمِمَّنْ ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ الْحَافِظُ، وَمَثَّلَ ذَلِكَ بِمَالِكٍ، وَشُعْبَةَ، وَالسُّفْيَانَيْنِ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَاللَّيْثِ، وَابْنِ الْمُبَارَكِ، وَوَكِيعٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَيَحْيَى بْنِ مَعِينٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ فِي نَبَاهَةِ الذِّكْرِ وَاسْتِقَامَةِ الْأَمْرِ، فَلَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ عَدَالَةِ مَنْ خَفِيَ أَمْرُهُ عَلَى الطَّالِبِينَ"اهـ[4].
الشرط الخامس: ضبط الراوي: فلا بد أنْ يكون راوي
الحديث الصحيح ضابطًا؛ وقد اشترط العلماء هذا الشرط احترازًا من أن ينسب الراوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله؛ فإنه وإن كان عدلًا في نفسه إلا أنه قد ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله لغفلته وعدم ضبطه.
والضبط عند المحدِّثين ضبطان؛ ضبط صدر وضبط كتاب:
فضبط الصدر: أنْ يُثْبِت الراوي ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.
وضبط الكتاب: هو صون الراوي لكتابه عن تطرق الخلل إليه من حين سمع فيه إلى أنْ يُؤَدِّي.
قال الإمام يحيى بن معين رحمه الله: "الضبط ضبطان: ضبط صدر وضبط كتاب؛ وإنَّ أبا صالح كاتبَ الليث ضبطُه ضبطُ كتاب".
فبيَّن الإمام ابن معين رحمه الله أنَّ من الرواة من رُزِق قوة الحفظ، فهؤلاء يُعتمد على ما يروونه من حفظهم، وهناك مَنْ لم يُرزقوا نعمة حفظ الصدر؛ وإنما كتبوا أحاديثهم في كتب، وحفظوا هذه الكتب من التلاعب، وصانوها من إدخال شيء فيها، فهؤلاء إن اعتمدوا على كتبهم المصححة المنقحة ورووا منها، فحينئذ تكون روايتهم مقبولة.
وكان الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله صاحب "المصنف" ممن ضبطهم ضبط كتاب، لا ضبط صدر؛ وكان كثير من العلماء لا يأخذون منه إلا إذا روى من كتبه، فإذا روى من حفظه تركوا حديثه.
قال الإمام ابن معين رحمه الله: "مَا كتبت عَن عبد الرَّزَّاق حَدِيثًا وَاحِدًا إِلَّا من كِتَابه كُله"[5].
بِمَ يُعرف ضبط الراوي:
قال العلامة ابن الصلاح رحمه الله: "يُعْرَفُ كَوْنُ الرَّاوِي ضَابِطًا بِأَنْ نَعْتَبِرَ رِوَايَاتِهِ بِرِوَايَاتِ الثِّقَاةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالضَّبْطِ وَالْإِتْقَانِ، فَإِنْ وَجَدْنَا رِوَايَاتِهِ مُوَافِقَةً - وَلَوْ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى - لِرِوَايَاتِهِمْ، أَوْ مُوَافِقَةً لَهَا فِي الْأَغْلَبِ وَالْمُخَالَفَةُ نَادِرَةٌ، عَرَفْنَا حِينَئِذٍ كَوْنَهُ ضَابِطًا ثَبْتًا، وَإِنْ وَجَدْنَاهُ كَثِيرَ الْمُخَالَفَةِ لَهُمْ، عَرَفْنَا اخْتِلَالَ ضَبْطِهِ، وَلَمْ نَحْتَجَّ بِحَدِيثِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ"اهـ[6].
/