الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
لقد قسم العلماء – رحمهم الله- القلوب إلى ثلاثة أقساملا رابع لها، أحدهاقلب سليم صحيح ليس به أدنى علة، وهو قلب المؤمن، وهو الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، قال الله- تعالى-: {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم}. وثانيها: قلب ميت، وهو الذي لا حياة فيه.
وثالثها: قلب مريض، له حياة وبه علة، قال الله- تعالى-: {في قلوبهم مرضٌ} وحديثنا في هذه العجالة على القلب المريض.
لقد ذكر أهل التفسير أن المرض في القرآن على ثلاثة أوجه1:
1.مرض البدن: ومنه قوله -تعالى-: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه}.
2. مرض الشك، ومنه قوله – تعالى-: {في قلوبهم مرضٌ فزادهم الله مرضاً}. وقوله: {وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم}.
3- مرض الفجور، ومنه قوله – تعالى-: {فيطمع الذي في قلبه مرض}. وقوله- تعالى-: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرضٌ}.
3.وقد يصاب القلب بأمراض عدة منها مرض الزيغ، قال الله- تعالى-: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه}. وأخبر عن عباده المؤمنين أنهم يسألون ربهم أن لا يزيغ قلوبهم: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.
ومرض الغل والغش والحسد والحقد والنفاق، قال الله- تعالى-: {ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم}.
ومرض الغلظة والشدة والجفوة، قال الله منزهاً رسوله عن أن يكون قلبه غليظاً: {فبما رحمةٍ من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك}.
ومرض الغيظ، قال الله- تعالى-: {ويشف صدور قومٍ مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم}.
ومرض الإباء والاستكبار، قال الله- تعالى-: {كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاّ ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر". فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: "إن الله جميلٌ يحب الجمال. الكبر: بطر الحق، وغمط الناس"2.
مرض الشك والريب وهو أعم الأمراض وأشدها خطورة، قال الله- تعالى-: {في قلوبهم مرض}. وقال تعالى: {ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذي في قلوبهم مرض}.
ومرض العشق، وهو مرض إذا تمكن واستحكم في قلب صاحبه عز على الأطباء دواؤه، وأعي العليل داؤه، وقد حكاه الله - سبحانه - في كتابه عن طائفتين من الناس: من النساء وعشاق الصبيان والمردان، فحكاه عن امرأة العزيز في شأن يوسف، وحكاه عن قوم لوط، فقال إخباراً عنهم لما جاءت الملائكة لوطاً: {وجاء أهل المدينة يستبشرون قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون واتقوا الله ولا تخزون... إنهم لفي سكرتهم يعمهون}3.
وبما أن القلب يمرض، فإن لم يتداركه صاحبه بالعلاج فسر عان ما يموت.
وإليكم- أيها الأخوة الكرام- العلاج لما سبق ذكره من الأمراض: فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضاً من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفي مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك يزيد مرضه، ويوجب له أمراضاً أخر أصعب من مرض العشق.. وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضاً إلى مرضه، لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة التي هي شرط في صحته وبرئه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذين أفتوا بالجهل فهلك المستفتي بفتواهم: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال"4. فجعل الجهل مرضاً وشفاؤه سؤال أهل العلم.
وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين ثلج صدره، وحصل برد اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رشده، وينشرح بالهدى والعلم، قال تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح له صدره للإسلام ومن يرد الله أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعّد في السماء}5.
ومن العلاج أيضاً لمرض القلب التداوي بأدوية القرآن الكريم، فقد قال ابن القيم –رحمه الله-: قال الله – تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} و{وننزل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة ٌ للمؤمنين} ففيه - أي القرآن - من البينات والبراهين القطعية ما يبين الحق من الباطل، فتزول أمراض الشبه المفسدة للعلم، والتصورات والإدراك، بحيث يرى الأشياء على ما هو عليه، وليس تحت أديم السماء كتاب متضمن للبراهين والآيات على المطالب العالية من التوحيد، وإثبات الصفات، وإثبات المعاد والنبوات، ورد النحل الباطلة والآراء الفاسدة، مثل القرآن، فإنه كفيل بذلك كله، متضمن له على أتم الوجوه وأحسنها، وأقربها إلى العقول وأفصحها بياناً.
فهو الشفاء على الحقيقة من أدواء الشبه والشكوك؛ ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه، فمن رزقه الله ذلك أبصر الحق والباطل عياناً بقلبه، كما يرى الليل والنهار...
وأما شفاؤه لمرض الشهوات فذلك بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب، والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة.
ولكن لقائل أن يقول : هل هناك علامات ودلالات تظهر على من كان قلبه مريضاً، فأقول لك: نعم، هناك علامات ودلالات تظهر على صاحب القلب المريض ذكرها - أيضاً - ابن القيم - رحمه الله- وهو يتحدث عن علامات مرض القلب وصحته، فقال: ومرض القلب أن يتعذر عليه ما خلق له من المعرفة بالله ومحبته والشوق إلى لقائه، والإنابة إليه، وإيثار ذلك على كل شهوة، فلو عرف العبد كل شيء ولم يعرف ربه فكأنه لم يعرف شيئاً، ولو نال كل حظ من حظوظ الدنيا ولذاتها وشهواتها، ولم يظفر بمحبة الله، والشوق إليه، والأنس به، فكأنه لم يظفر بلذة ولا نعيم ولا قرة عين، بل إذا كان القلب خالياً من ذلك عادت تلك الحظوظ واللذات عذاباً له ولا بد، فيصير معذباً بنفس ما كان منعماً به من جهتين: من جهة حسرة فوته، وأنه حيل بينه وبينه، مع شدة تعلق روحه به، ومن جهة فوت ما هو خير له وأنفع وأدوم، حيث لم يحصل له، فالمحبوب الحاصل فات، والمحبوب الأعظم لم يظفر به، وكل من عرف الله أحبه، وأخلص العبادة له ولا بد، ولم يؤثر عليه شيئاً من المحبوبات، فمن آثر عليه شيئاً من المحبوبات فقلبه مريض، كما أن المعدة إذا اعتادت أكل الخبيث وآثرته على الطيب سقط عنها شهوة الطيب، وتعوضت بمحبة غيره6.
ثم يطالعنا ابن القيم كعادته في معرفة أمراض وغوائل القلوب فيبين لنا مسألة أخرى وهي أن هناك أناس قد يمرضون ويشتد عليهم المرض، ولا يعرفون مرضهم، فيقول: وقد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرفه به صاحبه، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامات ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته. وما لجرح بميت إيلام.
وقد يشعر بمرضه ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها؛ فهو يؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى، وذلك أصعب شيء على النفس وليس لها أنفع منه.
وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه، ولا يستمر معه لضعف علمه وبصيرته وصبره.
وكأنه يشير – والعلم عند الله- إلى أن بعض من يصابون بمرض قلوبهم يستشعرون أنهم مرضى، ولكنهم لا يأخذون بالعلاج، وضرب لذلك مثالاً، وهو أن من أصيب بمرض الهوى، فإنه لا علاج له إلا بمخالفة هواه، وذلك أصعب شيء على النفس، ولكنه ليس هناك علاج أنفع له من مخالفة هواه.
وتارة قد يؤخذ العلاج، ولكنه سرعان ما ينفسخ عزمه، وينفذ صبره، فيترك العلاج، وهذا قد ينطبق على بعض من عرفوا جادة الصواب، ولحقوا بركب الصحوة المباركة، والتزموا بتعاليم الإسلام، ثم سرعان ما انقلبوا على أعقابهم، وتركوا التزامهم، وصاروا إلى ما كانوا عليه من قبل في الجهالة والعمى يتخبطون، وذلك لضعف علمهم وقلة صبرهم، وضعف تدينهم!! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين .
.................................................. .
[1]- المفردات ص466، وبصائر ذوي التمييز 4/492.
[3]- طب القلوب لابن القيم ص123.
[4] - جزء من حديث أخرجه أبو داود وحسنه الألباني في صحيح أبي داود رقم(325).
[5]- المصدر السابق ص 167، وإغاثة اللهفان 1/28-29. ط/ الكتب الإسلامي.
[6]- انظر إغاثة اللهفان 1/28- 29 ا
hgrJgf dlJvq