وسيرة الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما يقرؤها المسلمُ يجدها مليئةً بهذا الجانب؛ ولكن سنقتصر على ما هو موجودٌ في غزوة أحد؛ ومن هذه الجوانب ما يلي:
1 - الاستعداد والتأهُّب لمواجهة الجيش القادم:
ذكر المؤرِّخون أنَّ سبب هذه الغزوة ما حَصَل لقُريش من هزيمة في بدر، وأنَّ قُريشًا كانت تجيش فيها نزعاتُ الانتقام وأخْذ الثأر، فقرَّرت أن تقوم بحرب شاملة ضدَّ المسلمين، تَشفي غيظَها، وتروي غلَّة حِقدها.
فلمَّا تحرَّك جيش المشركين من مكَّة متجهًا إلى المدينة، أرسل العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - رسالةً يخبر فيها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بخبر هذا الجيش، فظلَّتِ المدينة في حالة من الاستنفار العام، فكان الرِّجال لا يفارقون حملَ السِّلاح، حتَّى وهُم في الصلاة.
وكانت مفرزة من الأنصار - فيهم سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسعد بن عبادة - يحرسون رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فكانوا يَبيتون على بابه، وعليهم السلاح - رضي الله عنهم.
وكلفت مفرزات تحرس مداخلَ المدينة وأنقابَها؛ خوفًا من أن يؤخذوا على غِرَّة، كما أنَّ هناك دورياتٍ من المسلمين كان دورها اكتشافَ تحرُّكات العدو، فكانت تتجوَّل حول طرق المدينة التي يحتمل أن يسلكها المشركون للإغارة على المسلمين[1].
2 - استشارته - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه وخطَّة الدفع التي كان يراها:
لَمَّا وصل جيش المشركين قريبًا من أُحد في مكان يُقال له: عينين، وعسكر بجنوده هناك، عقد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - مجلسًا استشاريًّا عسكريًّا؛ لسماع آراء المسلمين، وكان رأيه - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألَّا يخرجوا من المدينة، وأن يتحصَّنوا بها، فإن أقام المشركون بمعسكرهم أقاموا بشرِّ مقام، وبغير جدوى، وإن دخلوا المدينة قاتلهم المسلمون على أفواه الأزِقَّة والنِّساء من فوق البيوت، وكان هذا هو الرأي الأفضل.
ولكنَّ جماعة من فُضلاء الصحابة ممَّن فاته يوم بدر، وممَّن يريدون الشهادة في سبيل الله، أشاروا على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالخروج للقاء العدو، وألحوا عليه في ذلك، وقالوا: "اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يَروْن أنَّا جَبُنَّا عنهم وضعُفنا"، وكانوا هم الأغلبية، فاستقرَّ الرأي على الخروج من المدينة[2].
3 - لبس الدرعين والتدجج بالسلاح:
صلَّى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالناس يوم الجُمُعة، وحضَّهم على الجد والاجتهاد، وأخبرهم بالنصر بما صبروا، وأمرهم بالتهيُّؤ للعدو، ثم صلَّى بهم العصر، وقد حشدوا، وحضر أهل العوالي[3]، ثم دخل بيته، ومعه أبو بكر وعمر، فعمَّماه وألبساه، فتدجج بسلاحه وظاهَرَ بين درعين[4]، وتقلَّد السيف، ثم خرج على الناس[5].
فلمَّا خرج قال له الذين ألحُّوا عليه بالخروج: يا رسول الله، ما كان لنا أن نخالفَك، فاصنع ما شئت، إن أحببتَ أن تمكث بالمدينة فافعلْ، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما ينبغي لنبيٍّ إذا لبس لأْمَتَه – وهي الدرع – أن يضعَها حتى يحكمَ الله بينه وبين عدوِّه))[6]..
4 - رد الصغار الذين لا يطيقون القتال من بين الجيش:
عندما وصل الجيش إلى مكان يُقال له: "الشيخان"، استعرض الجيش وردَّ الذين لا يُطيقون القتال من الصِّغار، وكان منهم عبدالله بن عمر بن الخطَّاب، وأسامة بن زيد، وأسيد بن ظُهَير، وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وعرابة بن أوس، وعمرو بن حزم، وأبو سعيد الخدري، وزيد بن حارثة الأنصاري، وسعد بن حبتة.
وأجاز رافعَ بن خديج، وسمرة بن جندب على صِغر سنهما، وذلك أنَّ رافع بن خديج كان ماهرًا في رِماية النبل، وسمرة كان أقوى من رافع؛ لأنَّهما تصارعا بين يدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فصرع سَمُرةُ رافعًا، فأجازه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم[7].
5 - اختيار خمسين رجلًا لحراسة المعسكر:
لَمَّا أدرك النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المساء في المكان الذي استعرض فيه الجيش، بات هناك، واختار خمسين رجلًا لحراسة المعسكر، وجعل قائدَهم محمَّدَ بن سلمة، وكان هؤلاء يتجوَّلون حولَ المعسكر.
وتولَّى ذكوان بن عبد قيس حراسةَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كل هذا حيطةً وحذرًا منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الجيش أن يُصاب بمكروه[8].
6 - سلوك طريق تخرج على القوم من كثب دون المرور بهم:
كان جيش المشركين يحول بين جيش المسلمين وبينَ أُحد في مناطقَ كثيرة، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رَجلٌ يخرج بنا على القوم مِن كثب - أي: من قريب - من طريق لا يمرُّ بنا عليهم؟))، فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله، ثم اختار طريقًا قصيرًا إلى أُحد يمرُّ بحرَّة بني حارثة وبمزارعهم، تاركًا جيشَ المشركين إلى الغرب، ونفذ الجيش الإسلاميُّ، حتى نزل من جبل أُحد في عُدوة الوادي[9].
7 - اختياره موضعًا مرتفعًا لمعسكره:
لَمَّا نزل من جبل أُحد وصل إلى عُدوة الوادي، فعسكر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بجيشه مستقبِلًا المدينة، وجعل ظهرَه إلى هضاب جبل أُحد، فصار جيشُ العدوِّ فاصلًا بين المسلمين وبين المدينة، وقد كان لهذا الترتيب فائدةٌ عظيمة، وهي حماية ظهر الجيش[10].
8 - اختيار خمسين من الرُّماة الماهرين، وجعلهم على جبل صغير:
عبَّأ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الجيش وهيَّأه للقتال، وانتخب من الجيش خمسين من الرُّماة الماهرين، وأعطى قيادتَهم لعبدالله بن جبير بن النعمان الأنصاري، وأمرهم بالتمركُّز على جبل يقع على الضِّفة الجنوبيَّة من وادي قناة جنوب شرق المعسكر، على بعد حوالي مائة وخمسين مترًا من مقرِّ الجيش الإسلامي، عرف هذا الجبل بعد ذلك بجبل الرُّماة[11].
9 - وصاياه للرماة ألا يغادروا أماكنهم:
أوْصى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الرُّماةَ بعدَّة وصايا، وذلك تأكيدًا عليهم بألا يُغادروا أماكنَهم، فقال لقائد الرُّماة: ((انضح عنَّا الخيل بالنبل، لا يأتوننا مِن خلفنا، إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانَك لا نؤتين مِن قِبَلك))[12].
وقال للرُّماة: ((احموا ظهورَنا، فإن رأيتمونا نقتل، فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا قد غنمنا، فلا تشركونا[13]، وقال: إن رأيتمونا تخطَّفَنا الطير، فلا تبرحوا مكانَكم هذا، حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هَزمْنا القوم وأوطأناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم))[14].
فكان هذا التأكيدُ منه - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الرُّماة، وهذا التحذير لهم بألا يبرحوا أماكنَهم مهما كانتِ النتيجة؛ حيطةً وحذرًا من أن تقومَ خيولُ المشركين بالالتفاف خلفَ الجيش الإسلامي وتطوقه، وبعد أن تَرَك الرُّماةُ أماكنَهم، حَصَل ما كان يحذرُه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
10 - إشارة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لكعب بن مالك أن يصمت:
بعد عملية التطويق التي حلَّت بالجيش الإسلامي، استطاع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يشقَّ طريقًا إلى جيشه، فلمَّا وصل إليهم رآه كعبُ بن مالك فنادى بأعلى صوته: يا معشرَ المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأشار إليه أن اصمت؛ وذلك لئلاَّ يَعرِف موضعَه المشركون؛ وقد كان أُشيع في أوساطهم أنَّه قد قُتل[15].
11 - خطَّة الانسحاب المنظم:
بعد أن وصل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى جيشه المطوق تجمَّع حولَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جماعةٌ من الصحابة؛ فيهم أبو بكر وعمر وعلي، وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام والحارث بن الصمة، ورهط من المسلمين[16]، فأخذ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعملية الانسحاب المنظَّم إلى شعب الجبل، فشقَّ طريقًا بين المشركين المهاجمين لبقية الجيش، حتى ينسحبوا إلى الجبل، ويتخلَّصوا من عملية التطويق التي حلَّت بهم، وبهذه الطريقة انسحب الجيشُ، وفشلت عملية التطويق التي كان يُراد منها القضاءُ على ذلك الجيش[17].
12 - منع الصحابة من إجابة أبي سفيان:
لَمَّا انتهتِ المعركة، وأخذ جيشُ المشركين في التهيُّؤ للانصراف، أشرف أبو سفيان على الجبل، فنادى: أفيكم محمَّد؟ فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يُجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطَّاب؟ فلم يجيبوه.
ولم يسألْ إلَّا عن هؤلاء الثلاثة؛ لعلمِه، وعِلم قومه أنَّ قوام الإسلام بهم.
فقال: أمَّا هؤلاء فقد كفيتموهم.
فلم يملك عمر نفسَه أن قال: يا عدوَّ الله، إنَّ الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوءك.
فقال: قد كان في القوم مثلة، لم آمر بها ولم تسؤني.
ثم قال: اعلُ هُبل.
فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألَا تجيبونه؟ فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلُّ.
ثم قال: لنا العُزَّى، ولا عزَّى لكم.
قال: ألا تجيبونه؟ قالوا: ما نقول؟ قال قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم..
فأمرهم بجوابه عند افتخاره بآلهته وبشِرْكه؛ تعظيمًا للتوحيد، وإعلامًا بعزَّة مَن عبده المسلمون، وقوَّة جانبه، وأنَّه لا يُغلب، ونحن حِزبُه وجنده، ولم يأمرْهم بإجابته حين قال: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر؟
بل قد روي أنَّه نهاهم عن إجابته، وقال: لا تجيبوه؛ لأنَّ كَلْمَهم لم يكن بَرِدَ بعدُ في طلب القوم، ونار غيظهم بعدُ متوقِّدة، فلمَّا قال لأصحابه: أمَّا هؤلاء فقد كفيتموهم، حمي عمر بن الخطَّاب واشتدَّ غضبه، وقال: كذبت يا عدوَّ الله، فكان في هذا الإعلام من الإذلال والشجاعة، وعدم الجُبن والتعرُّف إلى العدوِّ في تلك الحال - ما يؤذنهم بقوَّة القوم وبسالتهم، وأنَهم لم يَهِنوا ولم يَضعُفوا، وأنَّه وقومَه جديرون بعدم الخوف منهم، وقد أبقى الله لهم ما يسوءهم منهم، وكان في الإعلام ببقاء هؤلاء الثلاثة وهلةٌ بعد ظنِّه وظن قومه أنَّهم قد أُصيبوا من المصلحة، وغيظِ العدوِّ وحزبه، والفَتِّ في عضده، ما ليس في جوابه حين سأل عنهم واحدًا واحدًا، فكان سؤالُه عنهم ونعيهم لقومه آخرَ سهام العدوِّ وكيده، فصبر له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى استوفى كيدَه، ثم انتدب له عمر، فردَّ سِهام كيده عليه، وكان ترك الجواب أوَّلًا عليه أحسن، وذِكْره ثانيًا أحسن[18].
13 - التثبت من موقف المشركين:
قال ابن إسحاق: ولمَّا انصرف أبو سفيان ومَن معه نادى: إنَّ موعدكم بدر للعام القابل، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لرجل من أصحابه قل: ((نعم، هو بيننا وبينكم موعد)).
ثم بعث رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - علي بن أبي طالب، فقال: ((اخرج في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون، وما يُريدون، فإن كانوا قد جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل، فإنَّهم يُريدون مكَّة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل، فإنَّهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأناجزنهم)).
قال علي: فخرجتُ في آثارهم أنظر ماذا يصنعون، فجنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل، ووجهوا إلى مكَّة[19].
14 - حالة الطوارئ بعد الرجوع:
رجع المسلمون إلى المدينة، وباتوا ليلة الأحد الثامن من شهر شوال سنة 3 هـ، وهم في حالة الطوارئ، باتوا وقد أنهكهم التَّعبُ، ونال منهم أيَّ منال، يحرسون أنقابَ المدينة ومداخلها، ويحرسون قائدَهم الأعلى رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خاصَّة، إذ كانت تتلاحقهم الشُّبهات من كل جانب[20].
15 - غزوة حمراء الأسد:
بات الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يفكِّر في الموقف، فقد كان يخاف أنَّ المشركين إن فكَّروا في أنَّهم لم يستفيدوا شيئًا من النصر والغلبة التي كسبوها في ساحة القِتال، فلا بدَّ من أن يندموا على ذلك، ويرجعوا من الطريق لغزو المدينة مرَّة ثانية، فصمَّم على أن يقوم بعملية مطاردة للجيش المكِّي.
قال ابن كثير: ولَمَّا أصبح يوم الأحد، ندب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المسلمين إلى النُّهوض في طلب العدوِّ؛ إرهابًا لهم، وهذه غزوة حمراء الأسد، وأمر ألَّا يخرج معه إلَّا مَن حضر أحدًا، فلم يخرج إلَّا مَن شهد أحدًا، سوى جابر بن عبدالله؛ فإنَّه كان أبوه استخلفه في مهمَّاته، فقُتل أبوه يوم أحد، فاستأذن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الخروج إلى حمراء الأسد، فأذن له.
فنهض المسلمون كما أمرهم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهم مُثْقلون بالجراح، حتى بلغ حمراءَ الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة، فذلك قوله – تعالى -: ﴿ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 172].[21]
ولم يكن ما توقَّعه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من عودة المشركين إلَّا حقًّا، فإنهم لما نزلوا بالرَّوْحاء على بعد ستة وثلاثين ميلًا من المدينة تلاوموا فيما بينهم، قال بعضُهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكتَهم وحدهم، ثم تركتموهم، وقد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا حتى نستأصلَ شأفتهم[22].
وخالفهم صفوان بن أُمية قائلًا: يا قوم، لا تفعلوا، فإنِّي أخاف أن يجمع عليكم من تخلَّف من الخروج - أي: من المسلمين في غزوة أحد - فارجعوا والدولة لكم، فإنِّي لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولةُ عليكم[23].
فرفض الأغلبية رأيَ صفوان، وأجمع جيش مكَّة على المسير نحوَ المدينة، وقبل أن يتحرَّك أبو سفيان بجيشه رأى معبد بن أبي معبد الخزاعي، فقال: ما وراءَك يا معبد؟ فقال معبد: محمَّد قد خرج في أصحابه، يطلبكم في جمع لم أرَ مثله قطُّ، يتحرَّقون عليكم تحرُّقًا، قد اجتمع معه من كان تخلَّف عنه في يومكم، وندموا على ما ضيَّعوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قطُّ.
قال أبو سفيان: ويحَك، ما تقول؟!
قال: والله، ما أرى أن ترتحل، حتى ترى نواصي الخيل، أو حتى يطلع أوَّل الجيش من وراء هذه الأكمة.
فقال أبو سفيان: والله، لقد أجمعنا الكرَّة عليهم لنستأصلَهم.
قال: فلا تفعل[24].
وحينئذٍ انهارتْ عزائمُ الجيش المكِّي وأخذه الفزع والرُّعب، فلم يرَ العافية إلَّا في مواصلة الانسحاب والرُّجوع إلى مكة.
ومرَّ بأبي سفيان ركبٌ من عبد القيس يريد المدينة، فقال: هل أنتم مبلِّغون عنِّي محمَّدًا رسالة، وأوقر لكم راحلتكم هذه زبيبًا بعكاظ إذا أتيتم إلى مكَّة؟
قالوا: نعم.
قال: فأبلغوا محمَّدًا أنا قد أجمعنا الكرَّة لنستأصله ونستأصل أصحابه.
فمرَّ الركب برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: حسبنا الله ونِعمَ الوكيل.
وأقام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بحمراء الأسد بعد مقدمه يومَ الأحد، الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة[25].
16 - إعدام أبي عزَّة الجمحي ومعاوية بن المغيرة:
روى البيهقي عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان من الممنون عليهم بلا فِدية يوم بدر أبو عزَّة الجمحي، تركه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لبناته، وأخذ عليه عهدًا ألَّا يقاتله، فأخفرَه وقاتله يوم أحد، فدعا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ألَّا يفلت، فما أُسِر من المشركين رجلٌ غيره، فقال: يا محمَّد، امنن علي ودعني لبناتي، وأعطيك عهدًا ألَّا أعود إلى قتالك.
فقال له رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تمسح على عارضيك بمكَّة، وتقول: قد خدعتُ محمَّدًا مرَّتين))، فأمر به فضُرِبت عنقُه[26].
أمَّا معاوية بن المغيرة بن أبي العاص، فإنه لَمَّا رجع المشركون يوم أحد جاء إلى ابن عمه عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فاستأمن له عثمانُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأمنه على أنَّه إن وجد بعد ثلاث قتله، فلمَّا خلت المدينة من الجيش الإسلامي أقام فيها أكثرَ من ثلاث يتجسَّس لحساب قريش، فلمَّا رجع الجيش خرج معاوية هاربًا، فأمر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - زيدَ بن حارثة وعمَّار بن ياسر، فتعقَّباه حتى قتلاه[27].
تلك المواقف والتدبيرات البارزة التي تجلَّت في تلك الغزوة تدلُّ دلالةً واضحة على ما كان عليه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الحَيْطة والحذر والتيقُّظ ممَّا يدور حولَه، وما يدبِّر له أعداؤه، فكان يعدُّ لكلِّ حادثة ما يناسبها، فهل يأخذ المسلمون هذا الدرسَ، ويتفطَّنون لِمَا يُحاك ضدَّهم من مؤامرات، ويكونون على يقظةٍ تامَّة بما يُريده أعداؤهم منهم.
نسأل الله أن يُفقِّهَنا في دينه، ويجعلنا مِن أنصاره وحِزبه، والحمد لله ربِّ العالمين.