الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.
أما بعد:
فإن للذنوب
عواقب وخيمة، وأخطاراً جسيمة في الدنيا والآخرة، ومن عواقبها في الدنيا: أنها سبب من أسباب زوال النعم، وحلول النقم.. يقول العلامة ابن القيم -رحمه الله-: "وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته، فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ...} سورة الرعد(11)، ومن تأمل ما قص الله -تعالى- في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء
عواقب الذنوب؛ كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإنَّ المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته، ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره، ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه، فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس"1
إخواني: اعلموا أن من
عواقب الذنوب: الهلاك والدمار لأي أمة خالفت أمر الله ورسوله؛ يقول رب -العزة والجلال-: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} سورة العنكبوت(40)؛ "فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟! وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع، وبُدِّل بالقُرب بُعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى، وبالإيمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة، وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباس الأيمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؛ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينه غاية السقوط، وحلَّ عليه غضب الرب-تعالى- فأهواه ومقته أكبر المقت فأرداه فصار قوَّاداً لكل فاسق ومجرم، رضي لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة؟! -فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك-.
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رأس الجبال؟! وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخل خاوية، ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟! وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم؟!. وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكم جميعاً، ثم أتبعهم حجارة من سجيل السماء أمطرها عليهم، فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد؟! وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظُلل فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟! وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟! وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟! وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً؟! وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم؟! وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال، وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار، ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فاهلكوا ما قدروا عليه، وتبروا ما علو تتبيراً؟! وما الذي سلط عليهم بأنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير، وآخر ذلك أقسم الرب -تبارك وتعالى-: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}2 سورة الأعراف(167). وما الذي كان سبباً في تبديل قوم سبأ بما كانوا عليه من البركة والخير الكثير بنزع البركة ومحقها؟!، لا شك إنها الذنوب، ومخالفة علام الغيوب: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}..
ومن
عواقب الذنوب التي يجب على الإنسان أن يخاف منها: سوء الخاتمة -والعياذ بالله-، وقد ذكر العلماء قصصاً كثيرة تبين أن
الذنوب كانت سبباً لسوء خاتمة أصحابها؛ فقد نقل الحافظ ابن رجب-رحمه الله- عن عبد العزيز بن أبي رواد أنه قال: "حضرتُ رجلاً عند الموت يلقن: "لا إله إلا الله"، فقال في آخر ما قال: "هو كافر بما تقول!!"، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: "اتقوا الذنوب، فإنها هي التي أوقعته"3.
ونقل ابن القيم كثيراً من القصص في سوء الخاتمة؛ فمن ذلك أنه: "قيل لبعضهم: قل "لا إله إلا الله" فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها.. وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فقال:
يا رب قائلة يوما وقد تعبت *** أين الطريق إلى حمام منجاب!
ثم قضى، وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله"، فجعل يهذي بالغناء، ويقول: تانا تنا تنتنا، فقال: وما ينفعني ما تقول، ولم أدع معصية إلا ركبتها!! ثم قضى ولم يقلها، وقيل لآخر ذلك فقال: وما يغني عني، وما أعلم أني صليت لله -تعالى- صلاة! ثم قضى ولم يقلها، وقيل لآخر ذلك فقال: هو كافر بما تقول! وقضي، وقيل لآخر ذلك فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يمسك عنها". إلى أن قال: "وأخبرني بعض التجار عن قرابة له أنه احتضر وهو عنده فجعلوا يلقنونه: "لا إله إلا الله"، وهو يقول: هذه القطعة رخيصة هذا مشترى جيد، هذه كذا ! حتى قضي"4.. وغير ذلك من عقوبات
الذنوب التي يجب على كل مسلم أن يخاف منها، وأن يحذر المسلم من الوقوع فيما يغضب ربه، وأن يعود إلى غافر الذنب، وقابل التوب، والله نسأل أن يتوب علينا، وأن يتوفانا وهو راض عنا، غير مبدلين ولا مغيرين، إنه جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
.................................
1 بدائع الفوائد(2/432). الناشر: مكتبة نزار مصطفى الباز- مكة المكرمة. ط1 1416ه.
2 انظر: الجواب الكافي، لابن القيم، صـ(26) وما بعدها. الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.
3 جامع العلوم والحكم(57). لابن رجب. الناشر: دار المعرفة – بيروت. الطبعة الأولى (1408هـ).
4 راجع: الجواب الكافي "الداء والدواء"، صـ(62)، وللمزيد من القصص في سوء الخاتمة انظر الجواب الكافي، (117- 118).