الوفاء بالعهد:
من المواقف التي تدل على الوفاء بالعهد في هذه الغزوة:
• بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب الكتابَ هو وسهيلُ بن عمرو،
إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يَرسُف في الحديد، وقد انفلَت إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى سهيل أبا جندل قام إليه
فضرَب وجهه، ثم قال: يا محمد، قد لجَّت القضية بيني وبينك قبل أن
يأتيك هذا، قال: صدقتَ، فقام إليه فأخذ بتلبيبه، وصرخ أبو جندل
بأعلى صوته: يا معاشر المسلمين، أتردُّونني إلى أهل الشِّرك، فيفتنوني
في ديني؟!
فزاد الناس شرًّا إلى ما بهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أبا جندل، اصبر واحتسب؛ فإن الله - عز وجل - جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحًا، فأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عليه عهدًا، وإنا لن نَغدِر بهم))[1].
العفو:
بعثَت قريش خمسين رجلاً منهم لمُعسكَر المسلمين ليلاً، وأمَروهم أن
يُطيفوا بعسكر المسلمين ليُصيبوا لهم أحدًا من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم غِرة، وكان عليهم مكرز بن حفص، ولكن جند المسلمين البواسل استطاعوا أن يأسروهم جميعًا إلا رئيسهم مكرز الذي فرَّ هاربًا، وكان على حراسة جيش المسلمين محمد بن مسلمة، فأتى بهم إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فعفا عنهم جميعًا، وخلى سبيلهم، وقد كانوا
رموا في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنَّبل[2].
محبة الخير للناس:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ ما يكون حرصًا على عدم قتال قريش؛ طمعًا في إسلامهم، واستفادة الدعوة منهم.
يقول أكرم ضياء العمري: "وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يَحرِص على الاستبقاء على حياة قريش، ويأمل في إسلامهم وإفادة الدعوة منهم، فالناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقُهوا، وقريش من أكثر العرب فصاحةً وذكاءً وخِبرةً ومكانةً، واستبقاؤها للإسلام فيه خير عظيم للدولة والدعوة كما برهنت الأيام، وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يتحسَّر لعِناد قريش وفنائها في الحرب مع المسلمين فيقول: ((يا ويح قريش؛ أكلتْهم الحرب، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وهم وافِرون، وإن لم يفعلوا قاتَلوا وبهم قوة؟! فما تظنُّ قريش، والله إني لا أزال أجاهِدُهم على الذي بعثني الله له حتى يُظهِره الله، أو تَنفرِد هذه السالفة))[3].
من أجل ذلك تجنَّب رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ مع خيالة قريش بقيادة خالد بن الوليد، وحرص على استقبال رسل قريش، وإرسال الرسل إليها؛ ليؤكِّد على رغبته في السلام، وأنه لم يَعزِم على الحرب، كما عفا عن الخمسين رجلاً الذين أسرهم من قريش.
إيثار
الحق وردُّ الباطل:
إيثار
الحق وردُّ الباطل: قاعدة أخلاقية كلية، يَنبثق عنها جملة من الأخلاق الجزئية كالعدل والأمانة والوفاء وغيرها، كما أن الانحِراف عن هذا الأصل الخلُقي العام يُفضي إلى السقوط في رذائل خلقية متعدِّدة؛ كالكذب والظلم والغدر[4].
من المواقف التي تُبرز جانب الحرص على الحق، وأنه أساس الحرب في الإسلام، والقاعدة التي ينطلق منها:
• بعد أن غيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقَه مُفاداة لخيالة قريش، خرج حتى إذا سلك ثنية المرار، وهنا بركت ناقته القصواء، فقال الناس: خلأت القصواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما خلأت وما هو لها بخُلُق، ولكن حبسها حابسُ الفيل عن مكة، والله لا تَدْعوني قريش اليوم إلى خطة يُعظِّمون فيها حرماتِ الله، إلا أعطيتهم إياها))[5].
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِن قَبُوله لأي خُطَّة فيها تعظيم لحرمات الله، أو فيها "صِلة رحِم" كما جاء في رواية أخرى[6].
ومن اللطائف الأخلاقية التي ذكرها العلامة ابن القيم في هذا الموقف:
"رد الكلام الباطل ولو نُسِب إلى غير مكلَّف، فإنهم لما قالوا: خلأت القصواء، يعني حزنت وألحَّت فلم تَسِرْ، والخِلاء في الإبل - بكسر الخاء والمد - نظيرُ الحِران في الخيل، فلما نسبوا إلى الناقة ما ليس من خُلُقها وطَبْعها، ردَّه عليهم، وقال: ((ما خلأت، وما ذاك لها بخلُق))، ثم أخبر صلى الله عليه وسلم عن سبب بروكها، وأن الذي حبس الفيلَ عن مكة حبسها؛ للحكمة العظيمة التي ظهرت بسبب حبسها، وما جرى بعده"[7].
فما أعظم هذا الدينَ الذي يحفظ الحقوق الأدبية حتى لغير المكلَّفين والعجماوات، ويؤثِر الحقَّ حيث كان، ويَرُد الباطل أيًّا كان مصدره!
الحِلم:
لقد كان للحِلم نصيب وافر في هذه الغزوة، فكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليمًا مع قريش، وكيف واجه جهالاتهم وحماقاتهم بحلم ورحمة، وقابَل سفاهتَهم وطيشهم برأفة وحكمة، فلم يدفعه الموقف المتعنِّت من قريش إلى مناجزتهم بالسلاح، ولولا هذا
الحلم ربما انتهت واقعة
الحديبية إلى بحر من الدماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قادرًا على إنزال بأسه بهم، وتلقينهم درسًا لا ينسى.
ومن مظاهر حِلْمه صلى الله عليه وسلم تحمُّله لجهالة رسل قريش، ومنهم عروة بن مسعود الثقفي، الذي جاء بكلام وأفعال استفزازية؛ حيث استخفَّ بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتَّهمهم بأنهم سيَنكشفون عنه، ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يُكلِّمه، ولكن المغيرة بن شعبة كان يردُّ يده متوعِّدًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم[8].
ذكر ابن القيم في فوائد هذه الغزوة: "ومنها: احتمال قلة أدب رسول الكفار، وجَهْله وجفوته، ولا يُقابَل على ذلك؛ لما فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبي صلى الله عليه وسلم عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك"[9].
وتفريعًا على الموقف السابق فقد روي أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قد صَحِب قومًا فغدر بهم وقتَلَهم وأخذ أموالهم، ثم جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وأسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما الإسلام فأقْبَل، وأما المال فلستُ منه في شيء))[10].
فقَبِل منه إسلامه، ولم يقبل منه الغدر، ولا المال الذي أخذ غدرًا، وفي هذا دَلالة على أن الإسلام لا يقبل إلا الحق، ويَردُّ كلَّ باطل ويدمغه. [1] مسند أحمد (18152)، سيرة ابن هشام (3: 992).
[2] سيرة ابن هشام (3: 989)، والبداية والنهاية (3: 334).
[3] السيرة النبوية الصحيحة (2: 438، 439)، والحديث في مسند أحمد (18152) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
[4] الأخلاق الإسلامية وأسسها (1: 519).
[5] أخرجه البخاري (2529) عن المسور ومروان رضي الله عنهما.
[6] سيرة ابن هشام (3: 985)، والبداية والنهاية (3: 332).
[7] زاد المعاد (3: 302).
[8] سيرة ابن هشام (3: 987 - 988).
[9] زاد المعاد (3: 305).
[10] زاد المعاد (3 / 304)، سيرة ابن هشام (3 / 988)، والبداية والنهاية (3 / 334).