بعد أن تحدثت عن سطح المسجد وخلوته ، باعتبارها من أجزائه التي تستخدم في الصلاة ، ناسب الحديث عما يستخـدم للنداء بالصلاة ، وهي منارة المسجد .
والمنارة في اللغة : مأخوذة من المنار ، وهو العلم الذي يهتـدي به الناس في المغـازي ونحوها ، لارتفاعه وإمكـان رؤيتـه من بعـيـد ، فسميت المنارة بهذا الاسم لارتفاعها .
والمنارة من حيث موقعها بالمسجد لها أربع حالات ، هي :
الحـالة الأولى : أن تـكـون المنارة في سطح المسجـد ، فـهـذه من المسجد ، لأنها جزء من سطحه ، وقد تقدم أن سطح المسجد منه . - ص 68 - الحـالة الثانية : أن تكون في رحبة المسجد المتصلة به ، فهي جزء منه ، وتأخذ حكـم الرحبة عند العلماء .
الحالـة الثـالثة : أن تكون خـارج المسجد ملتصقـة به ، وبابهـا في رحبته ، فهذه كالحالة الثانية .
الحالة الرابعة : أن تكون خارج المسجد غير ملتصقة به ، أو ملتصقة به لكن بابها خارج المسجد لا يتصل به إلا من الخارج .
واختلف في المنارة المتصلة بالمسجد ، على قولين :
القول الأول : أنها تأخذ حكـم المسجد ، وهذا قول الجمهور .
القول الثـاني : أنهـا لا تأخـذ حكـم المسجـد وهو المشهور عن مالك . الأدلـة : استدل الجمهور بأنها بنيت لأجل المسجد ، وأن الجنب والحائض يمنعان من صعودها ؛ لأنهما ممنوعان من دخول المسجد ، فأشبهت زاوية من زوايا المسجد لأنها من توابعه .
ولا أعرف لمالك - رحمه الله تعالى - دليلا ، لكن يمكن أن يستدل له بأن المنارة ليسـت مكانا للصلاة كالمسجـد ، وإنما هي مخـصصة للأذان ، فلا تأخذ حكـم المسجد . - ص 69 - واخـتلف في المنارة المنفصلة عن المسجد ، أو التي بابها خـارج المسجد ، على قولين :
القـول الأول : أنهـا من المسـجـد فتـأخـذ حكمه . وهذا مذهـب الأحناف وظاهر قول الشافعي حيث قال : " ولا بأس أن يعتكـف المؤذن ويصـعـد المنارة - سـواء - كـانت داخل المسجـد أو خارجـه منه " . واختـاره ابن البنا والقاضي أبو يعلى وأبو الخطاب من الحنابلة .
القول الثاني : أنها ليست من المسجد . وبه قال بعض الشافعية . وهو مذهب الحنابلة . الأدلـة : استدل أصحـاب القول الأول بأن المنارة بنيت للمسجد لمصلحـة الأذان ، فكأنها منه فيما بنيت له ، ولأنها كالمتصلة به .
واستدل أصحاب القول الثاني : بأن المنـارة المنفصلة عن المسجد - ص 70 - لا تعتبر منه لانفصالهـا عنه ، فلا يصح فيها اعتكاف ، ولا يجوز الخـروج للأذان عليـه للمؤذن المعتكـف ، إلا أن يكون هو المؤذن الراتب . عند بعض العلماء . المناقشـة : المتأمل لحالة الناس اليوم وفي الأزمنة الماضية يجد أن اتخاذ المنـائر بالمساجد وتصميمها وتحديد موقعها ، وتعددها بالمسجد ، يرجع إلى عرف الناس ، وفصلها عن مبنى المسجد لا يخرجها عن كونها منارة بنيت له .
وكـلام العلماء - رحـمهم الله تعالى - في منارة المسجد يدل على أنهم اتفقوا على جـواز اتخـاذ المنـائر وبنـائهـا بالمساجد . وأدلتهـم ما يلي :
1 - عن عروة بن الزبير عن امرأة من بني النجار قالت : كـان - ص 71 - بيـتي من أطول بيت كـان حـول المسجـد ، فـكان بلال يؤذن عليه الفجر ، فيأتي بسحر فيجلس على البيت ينظر إلـى الفجر ، فـإذا رآه تمطى ثم قال : " اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يقيموا دينك " . قالت : ثم يؤذن . قالـت : والله ما علمته تركها ليلة واحدة - يعني هذه الكلمات - . رواه أبو داود ولابن سعد نـحـوه وفيـه : " فكـان بلال يؤذن فـوقـه من أول مـا أذن إلى أن بنى رسـول الله مسجده ، فكان يؤذن بعد على ظهر المسجـد ، وقد رفع له شيء فوق ظهره . الشاهد : " من أطول بيت كان حول المسجد . . . يؤذن فوقه . . . على ظهر المسجد وقد رفع له شيء " .
وجه الدلالة :
أن بلالا كان يؤذن على مكـان مرتفع ، وقد أقره النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يدل على أن اتخاذ المنارة للأذان موافق للشريعة الإسلامية ؛ لأن الأذان يكون على مكان مرتفع . وهذا أمر مسنون .
2 - عن هشام عن أبيـه ، قال : أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلالا أن يؤذن يوم الفتح فوق الكعبة . رواه ابن أبي شيبة . - ص 72 - الشاهـد : " يؤذن . . . فوق الكعبة " .
وجه الدلالة :
أن الأذان يسن أن يكون على مكان رفيع ، والمنارة وسيلة لتحقيق هذه السنة ، فيجوز اتخاذها بالمساجد .
3 - وعن عبد الله بن شقـيق ، قـال : " من السـنـة الأذان في المنـارة ، والإقـامـة في المسجـد ، وكـان عبـد الله يـفـعـله " . رواه ابن أبي شيبة .
4 - وذكـر ابن عابدين : أن أول من عمـل المنـائر في مصـر للأذان مسلـمة بن مخـلـد بأمـر مـن معـاويـة بـن أبي سـفـيـان - رضي الله عنـه - في جـامع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عام ثلاثة وخمسـين للهجـرة ، وأول من رقي المنارة للأذان شرحبيل بن عامر المرادي .
وهذا يدلك : على أن المسلمين من عهد الصحابة قد تعارفوا على المنائر - ص 73 - وأجمـعوا على اتخاذها ، وفـيـهم الصـحـابة الكرام . بيـد أن بعض المعاصرين يرى كراهة المنارة مع وجود مكبرات الصوت ، وكونهـا لا تستخدم من قبل المؤذنين ، ولكونها تشبه أبراج الأجراس بالكنائس .
قلت : أما تصميم المنائر على هيئة صليب أو تمثال أو برج كنيسة ، فلا يصدر من مسلم عـارف بأحكام الشرع ، وإن صدر فلا يحل إقـراره ، لما يستلزم ذلك من استهزاء بمساجد المسلمين . وأما اتخاذها مـع مكبرات الصوت فهو أمر ذو فائدة لإبلاغ الصوت ، ولو لم يصعد إليها المؤذنون ، والاستدلال بها على المسجد ، وليتميز المسجد بها عن بقية بيوت الحي .
.