05-08-2018, 02:44 AM
|
|
|
|
التربية على الوئام
كعادتهِ بين حين وآخر يُتحفنا الفقيه الأديب والكاتب الأريب الشيخ الدكتور خالد المزيني بمقالة ينفض بها عن أعيننا سنة النوم، ويذكي بها في قلوبنا جذوة المعرفة، ويعودُ بنا إلى عواصم الإصلاح من قواصم الأفكار والممارسات التي تهدم كثيراً من جوانب الخير في حياتنا وذلك في مقالته الرائعة (فقه الوئام).
وبادئ ذي بدء فالأُلفة والاجتماع بين أهل الإسلام مطلب شرعي وفطرة إنسانية؛ وقد مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن بلين كَنَفِه وخفض جناحه وكريم شمائله حتى يُقبل عليه من حوله إلفاً ووداً؛ فقال صلى الله عليه وسلم (المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف) - رواه أحمد والطبراني والحاكم وصححه، وهو حَسَن بشواهده - وهي أيضاً شهادة بتقلص جوانب من الخير وانحسار بعض معاني الفضيلة من النفس بقدر ما يكون في صاحبها من شموس الطبع وغلظ الجانب.
وإن تعجَب فعجب قصده صلى الله عليه وسلم أن يتعامل بهذا المبدأ مع عدوه المكاشح الذي أساء الأدب وأطلق اللسان وأظهر البذاء كما في قصة عائشة المشهورة في سلام اليهود عليه صلى الله عليه وسلم وقولهم (السام عليكم).
التفت مِن حولك في طول عالمنا الإسلامي وعَرضه لترى حروباً ضروساً ودماءً تسيل كأنها الأنهار وممتلكات تسحق حتى تكون تراباً أو كأنها التراب، وأعراضاً تنتهك حتى تخجل من صنيعنا العجماوات، وضعفاً وشللاً في مسيرة البناء والتنمية حتى صرنا أضحوكة الأمم؛ هل كنا سنصل إلى ما وصلنا إليه لو كانت الألفة والوئام مغروسة في نفوسنا ومنعقدة عليها قلوبنا ومشربة بها عقولنا باعتبارها مبدءاً من مبادئ الشريعة التي لم تسمح في أشد حالات الخصام أن يتلاشى هذا المبدأ من بين المتخاصمين أو يذهب أثره من واقعهم ﴿ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ﴾ إلى قوله تعالى ﴿ إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ﴾.
وإذا كان هذا المبدأ الشرعي من لوازم الحياة الصالحة لكل مسلم ينبغي أن يتربى عليها الصغير والكبير والعالم والجاهل والغني والفقير فهو في حق أهل العلم وقادة الفكر وحداة الدعوة والإصلاح ألزم وأوثق فهم قادة الأمة وبينهم رحم خاصة هي أخص من رحم الإسلام العامة تقتضي جملة من الحقوق وتبتغي صوراً من البِر، وقد أسلمت الأمة أعنتها لهم، وتعلقت أعيُنها بتصرفاتهم؛ وإذا كان الأمر كذلك فشأن أهل العلم في التفريط في هذا المبدأ كبير كما أن شأنهم في ثواب تثبيته جليل فإن أضاعوا هذا المبدأ من حياتهم فقد أضاعوا أنفسهم وأضاعوا الآخرين؛ لا بل أهلكوا أنفسهم وأهلكوا الآخرين، وقد تقرر في الشرع أن سنة الهدى ترفع أصحابها إلى يوم الدين وسنة الضلالة توبق أصحابها إلى آخر الآخرين.
وكيف لا يكون الأمر كما ذكر آنفاً والواجب أن يكون بين أهل العلم الحب الوافر والصفح الجميل والمعذرة الصادقة وهم يحملون لواء الشريعة ويشتغلون بخير ما يشتغل به البشر من نشر دين الله وهداية الخلق إلى الله وتعليمهم ما ينفعهم في الدنيا والآخرة ويدرؤون عنهم سبل الغواية، وكل واحدة من هذه الخصال بلهَ جميعها تقتضي لمن وجدت فيه مزيداً من الحب وكثيراً من التوقير، أعظم الله أجركم أهل العلم ورزقنا وإياكم القبول.
هذا فضلاً عما يجب أن يكون بينهم من إشاعة المحاسن وإحسان الظنون وستر العورات وجمع القلوب، فإن لم يكن ذلك فلا أقل من الإنصاف والبعد عن الاعتساف، وحقيق بالنظر كلمات نيرات سطرها قلم العلامة ابن سعدي رحمه الله في كتابه الماتع الرياض الفاخرة تحت عنوان (الفصل الثامن عشر في واجبات أهل العلم فيما بينهم وفيما يتعلق بالناس).
وليس فيما قيل آنفاً وداعاً للنقاش ولا استدباراً للجدل العلمي الرصين ولا تنكباً عن الغيرة على الدليل الشرعي حينما يفهم على غير وجهه أو يرتكب الشطط في تأويله أو يسلك به إلى غير غايته بل هو دعوة للاستمساك بأدب الشرع في الحوار والنقاش ودأب دائم لتحصيل الغايات المشروعة التي تنمحي أو تكاد إذا هاجت عواصف النقاش دون أدب ولا علم، وكيف يصدف عن النقاش العلمي وهو الذي كان يجري بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بل معه فما يضيق به ذرعاً ولا يحمل فاعله وزراً ولا يؤذيه بلوم ولا معتبة بعد أن اجتهد فأخطأ، وإن شئت رؤية ذلك عياناً فعليك بسيرته صلوات الله وسلامه عليه ففيها التطبيقات الكثيرة الرائقة، وعلى سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم جرى صحابته المكرمون يمحصون الآراء ويوازنون بين الأقيسة ويفاضلون بين الفهوم كما في مجالس الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم من الصحابة الذين انتشروا في البلدان وأنشأوا مدارس العلم وخرجوا التلاميذ النجباء، كان ذلك كله يجري في حلة قشيبة من الأدب الوافر والخلق الجميل، ولولا ذلك لما شاعت علوم الشريعة ولما ترقت الحياة حتى وصل المسلمون إلى أن يكون قبلة للأمم في كافة العلوم الدينية والعقلية والصناعية مما سجله تاريخ رحلة العلم بين الأمم.
بل إن الأمر تجاوز الممارسة إلى إنشاء علوم كاملة تضبط هذا الحوار العلمي كما في علم أصول الفقه وأصول التفسير وعلوم الحديث والبحث والمناظرة والجدل، وامتلأت المدونات في شتى علوم الشريعة بالأخذ والرد والنقاش لتستوي الفكرة على سوقها ويؤمن من تسلط العاهة عليها وهناك يحسن تسويقها ويحل ترويجها، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وتأمن من العاهة.
وإنما الذي يذم في هذا السبيل الجدل العقيم الذي لا يستسلم صاحبه للحق ولا يرتاض للعودة إلى الصواب إذا ظهر له، وكذا الجدل بعبارات كأنها الحمم شدة وحرارة، أو النقاشات المتجاوزة لموضوعها إلى تهم وظنون وهواجس وهموم ربما لم ترد على من رمي بها يوما من الدهر قد وقاه الله بما عصمه من الدين ومن عليهم من التقوى ووهبه من حسن المعتقد وصلاح الباطن من أن يرتكس في بعضها فضلاً عن كلها.
والذي يرجوه المجادِل ذو الدين المتين أن يزيل سحابة الجهل عن صاحبه أو يكشف عن التداخل في معرفته أو يبسط له الحاجة إلى تغيير رأيه ليوافق الصواب الذي غاب عن تصوره؛ وإنما تنجلي كل هذه السحب وتزول تلك الغشاوات إذا دار النقاش على نحو يوصل إلى تلك الغايات، وتأمل مدونات الخلاف العلمي في سائر علوم الشريعة التي تمسكت بهذا الرشد كيف أصبحت محفوظة بأيدي الناس يقلبون صفحاتها ويتربون على أدبها ويشحذون العقول بدقتها فعلمتهم العلم والأدب جميعاً.
ولتدريب الأمة على هذا المبدأ الشرعي الجميل مجالات عدة أخص بالذكر منها ثلاث مجالات أراها حرية بأن يتحرى تمثل هذا المبدأ فيها لأنها تمس الفئام من الناس ثم هي مشرع يرده الكثير قراءة وسماعاً.
أولها: مجالس التعليم في دور العلم الرسمية وغير الرسمية إذ لا يخلو التعليم من ذكر مسائل الوفاق والخلاف فإن درب المتعلم على فحص الحجج والنظر العلمي الدقيق والتوقير للمختلفين والانصراف إلى موضوع البحث بجد ونشاط نشأ نشأة علمية صحيحة، وإن عود عبارات التهوين والتقبيح والتسفيه من أمثال ذاك قول ساقط، وتلك حجة متهافتة وهذا الرأي فج ونحو ذلك من العبارات درب على هذا لسانه وألفها جنانه بل ربما أغراه هذا المنهج أن يعرض عن إتعاب نفسه في فحص الحجج وتفتيش البينات ما دام أنه وجد في هذه العبارات ضالته في صرف الناس عما انصرف هو عنه، وكثيراً ما يكون هذا المسلك قرين قلة العلم وضعف القدرة على الحجاج.
وثاني هذه المجالات: نوازل الحياة في مجالاتها المتعددة والتي لا تخلو الحياة منها كل يوم، ومن طبائع البشر أن للنازلة في أول وقوعها وحشة في النفس بل ربما سارعت إلى إنكارها والبحث عن ردها ؛ غير أن نفس الفقيه - العالم بالشرع الذي يستحضر أنه مبلغ عن الشريعة وأن الدفع بغير حق كالقبول بغير حق سواء بسواء في إساءته إلى الشرع- تأبى أن تستسلم لعجلة الطبع هذه بل تستوفي النظر وتدقق في التوصيف وتحقق المناط وتنظر إلى كليات الشريعة نظرها إلى جزئياتها في توازن يولد فقهاً ويدفع حرجاً ويحقق مصلحة، وقديماً شكى شيخ الإسلام من حالة العجز التي تَلَبَّس بها بعض من يرجع إليه في العلم والفتوى حتى ساق هذا المسلك أهل السياسة أن يشرعوا في سياستهم ما لا يجوز في سياسة الشرع نظراً لما أحسوه من بعد الفقيه عن النظر والفحص واتخاذ الحلول لوقائعهم وأحوالهم. وفي مسائل النوازل هذه ربما يحتدم النزاع ويثور الخلاف بين فقيه نظر وتأمل وخالط أهل الاختصاص حتى عرف الواقعة على وجهها وأدرك من المصالح ما يقتضي قبولها أو من المفاسد ما يقتضي ردها وبين فقيه آخر لم يسلك مثل هذا المسلك فيقع التدافع والتراشق والرمي بالتساهل أو التشدد، وكل ذلك كان مكروها، وإنما ينبغي الحوار العلمي الذي يضيق سعة الخلاف فإن لم يحصل ذلك التقارب أو لم يحصل التفكير في ذلك الحوار فلا أقل من أن يكون خلق الوئام هو سيد الموقف في هذا المقام.
وثالثها: مقام الفتوى والتي لم تعد اليوم في كثير من صورها فردية بل هي عامة وإن كانت في ابتدائها فردية نظراً لما تيسر من وسائل الاتصال، فالمفتي الموفق من كان يدرب الأمة على هذا الخلق وهو يسوق على أسماعهم فتواه فأنت تسمعه ناصحاً ومشفقاً وداعياً بالخير ومحباً لأمته ودالاً لها على ما تحوز به الخير في لفظ رشيق وأدب رقيق يرفق بالمخطئ ويثني على المنيب ويشجع التائب هذا مع بيان الحكم في غير مواربة ولا مجاملة فلا يصرفه رفقه عن قول الحق ولا يسلمه فقهه إلى خشونة في اللفظ.
وبعد:
فالوئام كسائر أخلاق الإسلام واسع بسعة مجالاته وسعة أفراده ومسائله، وقد جعل الله لكل شيئاً قدراً، فقد تعلمنا من الشريعة أن من أحكامها ما هو واجب ومنها ما هو مندوب ومنها ما هو حرام ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مباح؛ وواجباتها طبقات بعضها فوق بعض وكذا محرماتها، وإذا كان الأمر كذلك فالوئام لا بد أن يكون بفقه حتى تنزل الأشياء منازلها اللائقة بها فليس الوئام اتباعاً لهوى النفوس ولا هو جار بمجرد التشهي ولا بمقتضى طبائع الإنسان الجبلية بل يجب أن يجري على سنن الشريعة تأصيلاً وتفريعاً جمعاً بين المؤتلفات وتفريقاً بين المختلفات فذاك من أهم أنواع الفقه كما قال الزركشي في المنثور في القواعد في معرض بيانه لأنواع علم الفقه: والثاني معرفة الجمع والفرق وعليه جل مناظرات السلف حتى قال بعضهم: الفقه فرق وجمع.
وقال الإسنوي في مقدمته لمطالع الدقائق: إن المطارحة بالمسائل ذوات المآخذ المؤتلفة المتفقة والأجوبة المختلفة المفترقة مما يثير مواقع أقدار الفضلاء ومواضع مجال العلماء. ولعل من حسن التوفيق أن كانت مقالة الشيخ خالد بعنوان (فقه الوئام) ولا يزال أمام الشيخ وغيره من أهل العلم متسع للقول في هذا الخلق النبيل والأدب الرفيع.
واللهَ نسأل أن يأخذ بأيدينا للصواب إنه وليُّ الصالحين وصلى الله وسلم على سيد الخلق أجمعين نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
hgjvfdm ugn hg,zhl
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
4 أعضاء قالوا شكراً لـ ضوء القمر على المشاركة المفيدة:
|
|
05-08-2018, 02:55 AM
|
#2
|
رد: التربية على الوئام
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-08-2018, 05:11 AM
|
#3
|
رد: التربية على الوئام
جزاك الله خيرا
وجعله الله في ميزان حسناتك
واثابكك الله عليه بجنانه
لروحكك الورد
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-08-2018, 06:15 AM
|
#4
|
رد: التربية على الوئام
جزآك لله الفردوس الأعلَى
ونفع بطرحك الجميع .. ولآ حرمك الأجر يارب
دمتي بـ حفظ الرحمن
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-08-2018, 10:07 AM
|
#5
|
رد: التربية على الوئام
جزاك الله خيرا
جعله في ميزان حسناتك
على طرحك القيم والمفيد
انتظر جديدك بكل الشوق
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-08-2018, 10:31 AM
|
#6
|
url=http://www.tra-sh.com/up/] [/url]
رد: التربية على الوئام
جلب رااائع ومميز
يعطيك العافية
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-08-2018, 03:49 PM
|
#7
|
رد: التربية على الوئام
|~
يعطيك العافية على ماقدمت
طرح أكثر من رائع جزاك الله كل خير
ودي وتقديري
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-09-2018, 02:25 AM
|
#8
|
رد: التربية على الوئام
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-09-2018, 02:25 AM
|
#9
|
رد: التربية على الوئام
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
05-09-2018, 02:25 AM
|
#10
|
رد: التربية على الوئام
|
|
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 08:47 PM
| | | | | | | | | |