كثيرًا ما نسمع البعض يردِّد حديث: ((استفتِ قلبَك وإن أفتاك الناسُ وأفتَوكَ وأفتَوك))؛ [رواه الإمام أحمد (17545) وصححه الألباني في صحيح الترغيب" (1734)].
يستدلُّون به على أنَّ المرء يُتابع ما يدلُّه عليه قلبُه ونفسه وعقله، ولا حاجة به لعالم أو مُفتٍ، ويعطون لأهوائهم ورغباتهم الحكم بالتحليل أو التحريم، فيَرتكبون ما يرتكبون من المحرَّمات ويقولون: "استفت قلبك"!
وسبحان ربِّي! فاعتمادُهم على
أنفسهم في فَهم هذا الحديثِ هو الذي أوقعَهم في هذا الاستِدلال الخطأ!
وليس مِن معاني الحديث أبدًا ما يَذهَبون إليه، بل معنى الحديثِ كما يقولُ العلماء أنَّ الفتوى التي لا تُوافق الشرعَ في ذاتها لا يؤخَذ بها، فإذا وصَل إلى المستفتي أنَّ الفتوى خطأ، أو بها مُحاباة أو هوًى أو غيره، فلا ينبغي له أن يركَن إليها، بل يَستمع لنُصح قلبِه وإملاءِ ضميره فلا يَعمل بِمُقتَضاها؛ لأنَّ مجرد الفتوى لا تحوِّلُ الحلال إلى حرام، ولا العكس!
والفتوى مَثلُها في ذلك كمَثل القضاء؛ فمِن الوارد أن يقع في القضاء محاباةٌ أو خطأ أو هوًى أو شهوة، فحين يصلُ إليك أنَّ القاضيَ حكَم لك خطأً أو حاباك، أو لأن لك أو لمحاميك قدرةً على الإقناع، أو لعدم استطاعة خَصمِك أن يُبينَ عن حجَّته، فلا يصحُّ لك أن تأخذ الحقَّ الذي حكَم لك به القاضي، ولا يمكن لعاقلِ أن يقول بأن مجرَّد حكم القاضي قد صيَّر من حقِّ المدَّعي ما ليس له بحق!
ولهذا جاء في الحديثِ عن زينبَ بنت أبي سلمةَ عن أمِّ سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلَبة خَصم ببابِ حُجرته، فخرج إليهم فقال: ((إنَّما أنا بشرٌ، وإنه يأتيني الخَصم، فلعلَّ بعضَهم أن يكونَ أبلغَ مِن بعض، فأحسِبُ أنه صادقٌ فأقضي له، فمَن قضيتُ له بحقِّ مسلم فإنما هي قطعةٌ من النار، فلْيَحمِلها أو يذَرْها))؛ [رواه مسلم 1713].
فكذلك الفتوى؛ إن أفتاك مُفتٍ بأن هذا جائز، ولكن نفسَك لم تطمئنَّ ولم تنشرِح إليه فدَعْه؛ فإنَّ هذا من الخير والبر.
ولعلَّ هذا من أوضح الأدلة أيضًا على خطأ مَن يقولون: نحن نعلم بأنَّ هذا حرام، لكنْ فلان أفتى بأنه حلال، فنحن نعمل بقوله، وعليه هو وزرُ ذلك! لأنه يجب عليه أن يَستفتي نفسه أولاً، ولا تخلِّصه فتوى المفتي من الله إذا كان يَعلم أنَّ الأمر في الحقيقة بخلاف ما أفتاه.
وبهذا الفَهم في الحديث قال الأئمَّة رحمهم الله تعالى؛ قال الإمام ابنُ القيِّم: "لا يجوزُ العمل بمجرَّد فتوى المفتي إذا لم تطمئنَّ نفسُه، وحاكَ في صدره مِن قَبوله، وتردَّد فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((استفت نفسك وإن أفتاك الناسُ وأفتَوك))"؛ ["إعلام الموقِّعين" (4 /254)].
وفي الحديث نوعٌ من الإعجاز النبوي؛ إذ أخبَر بأن ذلك سيقَع، وأعطانا العلاجَ له حين يقَع.