﴿ فَوَيْلٌ ﴾
ما معنى ويلٌ ؟
أي هلاك ينتظرهم، إذا راكب أحدهم مركبة، وكان الطريق منحدراً شديداً، وينتهي هذا المنحدر بمنعطف حاد، تسعون درجة، وهو نازل بسرعة كبيرة جداً، اكتشف أن المِكْبَح مُعَطَّل، ماذا يقول؟ يقولون لك:
وَلْوَلَ، أي أيقن بالهلاك، فكل قلب مقطوعٍ عن الله عزَّ وجل، كل قلبٍ متكبرٍ، كل قلبٍ جبَّارٍ، كل قلبٍ فيه الضغائن، فيه الحَسد، فيه البُعد، فيه القسوة، فيه الظُلم، هذا القلب الويل له، أي أن الهلاك ينتظره.
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
بالمناسبة القلب القاسي الذي امتلأ شهواتٍ لا يحب ذكر الله، لا يحبُّ مجالس العلم، لا يحب تلاوة القرآن، لا يحب موعظةً، لاحظ إذا كانت هناك جلسة والحديث فيها عن التجارة، أو عن أمور أخرى تستمر الجلسة حتى الساعة الواحدة ليلاً، ولو أن أحدهم تكلم كلمة حق، لصار عندهم جميعاً مواعيد وارتباطات، عجيب حينما يبدأ ذكر الله عزَّ وجل تشمئزُّ من ذكر الله قلوب الكفار، لا يريدون سماعه لأن قلوبهم منكرة.
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾
أما المؤمن فإنه يستمع، يرحِّب، ينسى تأخر الوقت أو فواته لأنه منسجم، أما غير المؤمن فهو يتضايق.
﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾
في ضلال مبين، ضلاله واضح للعيان وضوح الشمس، في ضلال بعيد.
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾
فضل كلام الخالق على كلام خلقه كفضل الله على خلقه :
أقول لكم هذه الحقيقة: من تشرَّفَ قلبه بمعرفة الله وتلاوة القرآن لا يستطيع أن يهبط مستواه الثقافي - فلا يقرأ مثلاً قصة من ثمانمئة صفحة، أحداثها كلها مفتعله وفارغة، وملخص كل هذه القصة كلمتان - فوقته أثمن، فإذا تشرَّف قلبك بمعرفة كتاب الله عزَّ وجل لا تستطيع أن تتعامل مع كتابٍ آخر، هذا كتاب الخالق، فضل كلام الخالق على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، مسافة كبيرة جداً، النَظم المُعجز، الأدب الجَم..
﴿ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ﴾
[ سورة النساء: 43]
لا تخدش حياء أحد،
مثلاً:
﴿ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)
[ سورة المعارج: 31 ]
إشارات ذكيَّة، نَظم مُعجز، كلام موجز، كلام دقيق مُحكم، الكلمات تختار بشكلٍ رائع جداً، أحسن الحديث، بينما لهو الحديث الكلام الفارغ الذي لا طائل منه.
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾
كتاب فيه تنويع، قصة، مشهد، خبر، تاريخ، آية كونية، حُكم فقهي، مثل، هذه كلها تُعطي النفس شوقاً وإقبالاً لعلة التنويع والإحكام.
آيات القرآن الكريم يشبه بعضها بعضاً في الحكمة والدقة والإعجاز والنظمِ :
قال:
﴿ كِتَابًا مُتَشَابِهًا ﴾
كل آياته يشبه بعضها بعضاً في الحكمة، وفي الدقة، وفي الإعجاز، وفي النظمِ، متشابهة، كل الآيات متشابهة لا تستطيع أن تفضِّل آية على آية، ولا مشهداً على مشهد، ولا سورة على سورة، ولا مقطعاً على مقطع، ولا جزءاً على جزءٍ، نظم متشابه، كله في منتهى الرَوْعَة ومنتهى الدقة، لكن المؤمن قد ينكشف له وجه الإعجاز في بعض الآيات، ولا ينكشف له وجه الإعجاز في آياتٍ أخرى، فإذا أقبل على هذه الآيات، لا لأن هذه أرقى؟ لا، فالكتاب في مستوى واحد من حيث الإتقان، الإعجاز، الدقة، الإحكام، البلاغة، الصواب.
هذه الآيات علامة للمؤمنين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، فالمؤمن إذا قرأ آيات الرحمة أو قرأ آيات العذاب يقشعر جلده، يقول لك: جلدي اقشعر، أو يقول لك: نَمَّلَ بدني أي شعر بصدمة انفعالية جعلت جلده يقشعر من شدة الخشوع، وأحياناً تأتي آيات البشارات؛ بشرى وراء بُشرى، وصف أهل الجنة وهم في الجنة يتنعمون، تطمئن النفس، إذاً هذا الكتاب متشابه، مثانٍ، أي فيه وصف أهل الجنة وأهل النار، الدنيا والآخرة، الخير والشر، والإيمان والكفر، الإخلاص والخيانة، أي فيه صور متناقضة أو مفاهيم متباينة لأهل الكفر والإيمان، أو أن كل آيةٍ تنثني على أختها فتفسِّرُها:
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾
[ سورة القدر: 1 ]
آية ثانية:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾
[ سورة الزمر: 67 ]
إذاً
وأنت في ليلة القدر ينبغي أن تقدِّر الله حق قدره، من التقدير والتعظيم، فكل آيةٍ تنثني على أختها فتفسرها، هذا معنى كلمة "متشابهاً"، هذا معنى " مثاني ".
رحمة الله عزَّ وجل هي غاية الغايات :
﴿ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾
أي إنّ القلوب لتصدأ قيل: وما جلاؤها؟ قال: ذكر الله.
ذكر الله يطمئن القلب، والإنسان سعادته بقلبه، قد يتوافر له كل شيء ويفقد رحمة الله عزَّ وجل فلا يجد شيئاً، وقد يفقد كل شيء ويجد رحمة الله عزَّ وجل فلا يشعر أنه فقد شيئاً، فرحمة الله عزَّ وجل هي غاية الغايات، قال:
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ ﴾
هذا العقل المستنير، والقلب المطمئن، والجسد الليِّن في الطاعات، كله طاعات، عينه تغض عن محارم الله، وأذنه لا تستمع إلا إلى الحق، ولسانه لا ينطق إلا بذكر الله، ويده لخدمة الناس لا للبطش، ورجله ليأتي إلى المساجد، فأعضاء الإنسان ليِّنةٌ في الطاعات.
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
أي أنَّ هذا الهدى ليس مِلك أحد، ولكن كل واحدٍ بإمكانه أن يصل إليه، ففي العصور الوسطى كان رجال الدين المسيحي يبيعون صكوك الغفران، ويبيعون قِطَعاً في الجَنَّة، بأوراق تسجيل رسمية ( طابو )، فجاءهم رجلٌ خبيث جداً أراد أن يشتري منهم النار، استغربوا ما هذه الصفقة؟! فما شأنك بها؟ هذه رغبتي، فاشتراها بثمنٍ بخس، الجنة كانت غالية جداً يشترونها شراءً بالمال، بعد أن اشتراها أذاع بين الناس: لا تشتروا شيئاً في الجنة فأنا اشتريت النار وأغلقتها. فاضطر الذين باعوه النار أن يشتروها منه ثانية بأعلى الأثمان - وقد وقعت هذه القصة فعلاً - بعد أن باعوه جهنم اشتروها منه ثانية، فقد أوقف لهم البيع كله.
فهذا الهدى ليس مِلك أحد، إنه من عند الله يعطيه من سأله، قال:
﴿ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾
من يشاء من عباده، كل من شاء الهدى ودفع ثمنه وصل إليه:
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ ﴾
[ سورة المائدة: 12 ]
سلعة الله هي جنته ورحمته، ألا إن سلعة الله غالية.
رحمة الله عزَّ وجل لها ثمن ثمنها :
1 ـ تقوى الله :
رحمة الله عزَّ وجل لها ثمن، ثمنها تقوى الله..
﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
[ سورة الحجرات: 10 ]
هذا أول ثمن.
2 ـ طاعة الله و الرسول :
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
[ سورة آل عمران: 132 ]
ثاني ثمن.
3 ـ إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة :
﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
[ سورة النور : 56 ]
ثالث ثمن.
4 ـ الإنصات عند سماع القرآن الكريم :
﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
[ سورة الأعراف: 204 ]
رابع ثمن.
5 ـ الإحسان :
﴿ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ﴾
[ سورة الأعراف: 56 ]
خامس ثمن.... الخ، أثمان واضحة.
تفاضل العباد عند الله عز وجل بطاعتهم له :
لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام ماذا قال؟
((اللهم إني أسألك .. موجبات رحمتك ))
[ الطبراني عن شداد بن أوس]
الموجبات، اطلب الموجبات، لو فرضنا " أب مَلِك "، طلب منه ابنه - ضربت مرة هذا المثل- طائرة خاصة، فقدمها له، فالقضية سهلة جداً، هذا يخت في البحر، هذا يخت، قصر هذا قصر، لكن بعد ذلك طلب هذا الابن أن يكون أستاذاً في الجامعة فقال له: هذه ليست لي، هذه عليك، فهذا الابن عليه أن يطلب موجبات هذه المرتبة العلمية، موجباتها يدخل الجامعة، موجباتها الكُتب، موجباتها الأساتذة، فأن تسأل رحمة الله بلا ثمن فهذا سؤال فيه حُمق، النبي عليه الصلاة والسلام سأل رحمة الله لكن سأل معها موجباتها، فالأمر بمنتهى البساطة وفيه وضوح، علاقتك مع الله تشبه القوانين، أتحب أن تلقى الله عزَّ وجل؟ أن تتصل به؟ فالقضية سهلة كثيراً:
﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾
[ سورة الكهف: 110]
تحب أن ترتاح نفسك؟ القضية سهلة:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
[ سورة فصلت: 20 ]
تحب حياة طيبة؟
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ﴾
[ سورة النحل: 97 ]
اقرأ القرآن تجده كله قوانين، كل شيء له ثمن، فأنت ادفع الثمن وخُذ النتيجة، لا يوجد زيد وعُبيد، كلنا عباد الله عزَّ وجل، الناس سواسيةٌ كأسنان المشط، لا فرق بين عربيٍ وأعجميٍ إلا بالتقوى..
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
[ سورة الحجرات: 13]
لا يوجد تمايز إطلاقاً إلا بالعمل، فكلنا عباد الله، نتفاضل عند الله بطاعتنا له