﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [المائدة: 105]
بعض
الناس يريد أن يتملص من فريضة الدعوة إلى الله، ولا يحب أن يتحمل مشقةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، فيذهب إلى الكَسل والدَّعَة والراحة حسبما يملي عليه هواه، لكنه لا يذهب بنفسه مكتفيًا بإثم تضييعِ هذا الواجب فقط، بل تؤزُّه نفسه الأمّارة بالسوء أن يستدل لكسَله وإثمه بآية أو حديث، ومن أشهر الآيات التي يستدل بها البعض في هذا المقام قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105].
يزعمون أن فيها دليلًا لتفريطهم ذاك، يقولون: ما كلفنا الله إلا أنفسنا، وما علينا في الآخرين من ضرر طالما أننا عملنا بالحق واتبعنا الهدى، لا يضركم من ضلَّ إذا اهتديتم! وما درَى هؤلاء المساكين أنهم لو ذهبوا إلى باطلهم راحة وكسلًا كان أهون عند الله في الإثم من أن يستدلوا عليه بالأدلة؛ لأن البديهة تقول بأن الآيات والأحاديث لا تكون دليلا أبدًا على الباطل، فعُلم بالضرورة أن الاستدلال بالآية في غير موضعه، وهو كذلك ها هنا في هذه الآية.
فهذا الذي استدل على زعمه بالآية لو أنه تفكر في ألفاظها لظهر له أنها تنسف استدلاله!
1 - فإن الله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وهذا النداء لعموم المؤمنين، لا يتخلف عنه إلا من أحب أن يستبدل به نداء غيره يخرجه عن مجموع المؤمنين، فكان واجبًا على من سمعه - وهو يزعم أنه منهم - أن يستجيب للتكليف الذي يأتي بعده، فما هو التكليف؟
قال تعالى: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، ومعنى عليكم أنفسكم: الزَموا أنفسكم، وتعبير أنفسكم تكرر كثيرًا في القرآن الكريم، وأقربه إلى السمع قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [الحجرات: 11]، وهو يدعو إلى التساؤل: كيف يلمز الإنسان نفسه؟ وأيضًا من القريب قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [النساء: 29]، وأيضًا يرد التساؤل نفسه: كيف للمؤمنين أن يقتلوا أنفسهم؟!
والمتأمِّل في القرآن الكريم لن يعدم الإجابة الصحيحة على هذه التساؤلات؛ إذ يعلم أن المعنى في الأول: لا يلمز بعضكم بعضًا، وفي الثاني: لا يقتل بعضكم بعضًا، فكذلك هنا في تعبير هذه الآية: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾: الزَموا أنفسكم؛ أي: ليلزَمْ بعضكم بعضًا، وهو معنى قوله تعالى: ﴿ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 3]، فما أدَّى حقَّ إخوانه المؤمنين فيما أوجبه الله عليه من ذلك مَن ترك إخوانه مِن نصحه ودعوته، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر؛ لأن هذا مقتضى حرص الإنسان على إخوانه المؤمنين.
2 - وفي الآية أيضًا يقول ربنا: ﴿ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، فبيَّن سبحانه أن الإنسان إذا اهتدى لا يضره فعل الغير، فمتى يكون الإنسان مهتديًا؟
والجواب: إذا أدى ما أُمِر به، وترك ما نهي عنه، فساعتها لا يضره فِعلُ الغير؛ لأن كل نفسٍ إنما تزر على نفسها، وهذا يقتضي من الإنسان أن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكَر؛ لأنه لا يمكن أن يكون مهتديًا ما لم يأمر بالمعروف، ويَنْهَ عن المنكر؛ لأن من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غيرُ مهتد؛ إذ كيف يكون مهتديًا وقد أضاع جميعَ الأوامر التي تحث على هذه الشَّعيرة وتحض عليها؟ فالاهتداء مِن شرطه الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكَر.
3 - وقد وردت السنَّة النبوية - وهي البيان لِما في القرآن، والتوضيح له، وفيها التفصيل - بالتحذير من فهم أولئك الكسالى المدعين على الله تعالى؛ ففي الحديث عن أبي بكرٍ الصِّديق رضي الله عنه أنه قال: "يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن رأى الناسُ الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعُمَّهم اللهُ بعقاب منه))؛ [رواه أبو داود (4338)، والترمذي (2168) وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم 2448]، فبيَّن - رضي الله عنه - أن هذه الآية تقتضي القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، وليست دعوة لترك ذلك، فما يكون مهتديًا مَن ضيَّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل يكون ناقصَ الهداية، ناقص الإيمان.
4 - نعم على الإنسان أن يهتم بنفسه، وأن يعتني بها، وأن يجتهد في صلاحها؛ فإنه مسؤول عنها أول شيء، ثم يهتم بأمر أسرته ومَن يعُولهم، ثم يبلغ دين الله متى تطلَّب الحال ذلك وقام به على وجهه.
5 - وإذا قام الإنسان بما أوجبه الله عليه من الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يسمع منه، فلا عليه أن يدعَ مَن كان كذلك؛ فإنه لا يضره ضلاله، ولا يزر وزره؛ فعن ابن مسعود قال في هذه الآية: مُرُوا بالمعروف وانهَوْا عن المنكر ما قُبِل منكم، فإن رُدَّ عليكم فعليكم أنفسَكم، ثم قال: إن القرآن قد نزل منه آيٌ قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آيٌ قد وقَع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه آي يقع تأويلُهن بعد رسولِ الله بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن في آخر الزمان، ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة، ما ذكر من الحساب والجنة والنار، فما دامت قلوبُكم وأهواؤكم واحدة، ولم تلبسوا شيعًا، ولم يذُقْ بعضكم بأس بعض، فأمُروا وانهَوْا، وإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤٌ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية؛ [تفسير البغوي (3/111)].
6 - وبهذا المعنى الشامل للآية جاء حديثٌ عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخُشَني، فقلت: يا أبا ثعلبة، كيف تصنع في هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قلت: قول الله عز وجل: ﴿ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، فقال: أما والله لقد سألتَ عنها خبيرًا، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: *((بل ائتمروا بالمعروف، وتناهَوْا عن المنكَر، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجابَ كلِّ ذي رأي برأيه، ورأيت أمرًا لا بد لك منه - فعليك نفسَك، ودَعْ أمرَ العوامِّ؛ فإن من ورائكم أيام الصبر، فمن صبر فيهن قبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله))، قال ابن المبارك: وزادني غيره: قالوا: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم))؛ [رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصححه الترمذي والشيخ أحمد شاكر في عمدة التفسير (1/748)، وضعفه الألباني عدا فقرة أيام الصبر قال: ثابتة، ضعيف الجامع 2344)].
7 - فلا يفترِ إنسانٌ على كتاب الله ما ليس يعنيه، ولا يقولن عليه ما ليس فيه، ولعل مِن كرامات أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في نهاية حديثه السابق: يا أيها الناس، إياكم والكذبَ؛ فإن الكذبَ مجانِبُ الإيمان.