وأشهد أن لا إله إلا الله، لا يَكشفُ الضُّرَ سِواهْ، ولا يَدْعُو المضطَرُّ إِلاَّ إِيَّاهْ، نَعُوذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهْ، وَنُنْزِلُ فَقرَنا بِغِناهْ، وَنَستغفِرُهُ وَمن يَغفرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله.
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخيرتُهُ من خلقهِ، وأمينُهُ على وحيهِ:
يا نبيَّ الهدى ويا خير صوتٍ
حين يتلى متيمًّا للحداةِ
يا محبًّا تَعلم الحب منه
ثم آتى ثماره الناضجاتِ
ما رأينا في دفتر المجد أسمى
منك حبًّا برغم كيد الوشاةِ
صغت للدهر قصة من نضالٍ
وفعالٍ أبيةٍ ذائعاتِ
وحروفٍ منسوجةٍ من ضياءٍ
ما توارى عن شاشة الذاكراتِ
لو رميتم مفاتح الأرض عندي
وأتيتم بالشمس والمقمراتِ
ليس في شرعة الهوى من نكوصٍ
وعهودٍ مأجورةٍ مشتراتِ
والأمور الصعاب تبدو لعيني
في رضا من أحبه هيناتِ
فإذا أظلم الدجى قام يدعو
ويناجي بأدمعٍ واجفاتِ
يا إلهي إن كنت راضيًا فإني
لا أبالي بما أتوا من أذاةِ
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــدُ:
عباد الله، إذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالُها، وترادفت الضوائق وطال ليلُها، وأجلبت الهموم بخيلها ورَجِلِها، وتاه الدليل في القفار، واستقت البحارُ من الركايا:
فعند ذلك؛ الصبر وحده – بإذن الله - هو الذي يشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، وتُبنى عليه الأعمال، وتعلَّق به الآمال، وتواجه به الأعباء مهما ثقُلت، يظل معه المؤمن بعيد النظر، موفور الثقة، دائم التفاؤل، بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها غيوم، فيظل مستمسكًا بالعروة الوثقى، ويبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابَها في سكون ويقين، فلا تذهله المفاجآت؛ وهو يقرأ قول الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
ولكم أبدى الْقُرْآن فيه وأعادَ، وردَّد وكرَّر؛ حتى ذُكِر فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ مائةِ مرة، وأُمر به نبينا صلى الله عليه وسلم أمرًا صريحًا في الْقُرْآنِ أكثر من عشرين مرة، ولا نجد في الْقُرْآنِ عملًا ضُخِّم جزاؤه، وعُظِّم أجرُه مثلَه.
وَقد قِيلَ: "تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا، وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا"[5]، وَفِي شعب الإيمان: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَة))[6].
عباد الله، الصبرُ جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، ونور لا يخبو، وجندي لا يهزم، وحصن لا يهدم، وحجة في البلاء، وزاد في الابتلاء، وفيه عظيمُ الجزاء: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، لا يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا بغير حساب، ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ))[7]، ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حزنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ - إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ))[8]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
إنَّ الصبر من عناصر الرُّجولة الناضجةِ والبطولةِ الفارعة، فإنَّ أثقالَ الحياة لا يطيقها المهازيل والعجزة، ولا ينهض برسالتها، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا العمالقة الصابرون، ومن ثم؛ كان نصيبُ القادة من العناء والبلاء مكافئًا لما أُوتوا من مواهب، ولما أدُّوا من أعمال.
وسنة العظمة والاعتداد هي التي أوحتْ لقائد أمريكي كبير أن يقول: لا تسألِ الله أن يخفِّف حِملَك، ولكن اسأل الله أن يقوِّيَ ظهرك[9].
إن خفة الحمل، وفراغَ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير، لكن مشاغل العيش، ومرارة الكفاح، واستدامة السعي، هي أخلاق الجاهدين البنَّائين في الحياة.
فالمؤمن السارب في الحياة هدفٌ لمشاكلها الجمة، أما العاجز الهارب من المسؤولية، فماذا يصيبه؟! وذاك سرُّ قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ))[11]، وقوله: ((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[12].
فالمتعرض لآلام الحياة - يدافعها وتدافعه - أرفعُ درجاتٍ عند الله من المنهزم القابع بعيدًا، لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، وما ادَّخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادَّخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل: ((يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ))[13].
عباد الله، إنَّ الصبر عصمة للإيمان وللنفس وللمجتمع، بل وللأمة كلِّها، وعندما تستقرئ الأمر به والخُبْر عنه؛ تجد أنه جماعُ الفضائلِ كلِّها، وأساسُها وأُسُّها.
وهذه نفس نبينا صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها، في ثباتها وصلابتها، في صفائها وشفافيتها تحتاج إلى التوجيه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]، ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7].