11-15-2016, 09:08 PM
|
|
|
|
أمهلوا حتى ندخل ليلاً
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
فإنه قد بلغ من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم منتهى الكمال البشري، ولعلنا في هذا الدرس نبرز أحد دلائل ذلك الخلق العظيم الذي وصفه به الله تعالى في كتابه العزيز بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة، فلما أقبلنا تعجلت على بعير لي قطوف، فلحقني راكب خلفي فنخس بعيري بعنزة كانت معه، فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل، فالتفت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما يعجلك يا جابر) قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بعرس، فقال: (أبكرا تزوجتها أم ثيباً) قال: قلت: بل ثيبا، قال: (هلا جارية تلاعبها وتلاعبك!) قال: فلما قدمنا المدينة ذهبنا لندخل، فقال: (أمهلوا حتى ندخل ليلاً؛ كي تمتشط الشعثة، وتستحد المغيبة) قال: وقال: (إذا قدمت فالكيس الكيس).1
مفردات الحديث:
قوله: (قطوف) القِطاف: تَقَارُب الخَطْوِ في سُرعة.
قوله: (فلما أقبلنا تعجلت): أي رجعنا.
قوله: (تعجلت على بعير لي قطوف): هو بفتح القاف أي بطيء المشي.
قوله: (فنخس بعيري بعنزة): هي بفتح النون وهي عصا نحو نصف الرمح في أسفلها زج -الحديدة التي تركب سافلة الرمح-.
قوله: (فانطلق بعيري كأجود ما أنت راء من الإبل): هذا فيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأثر بركته.
قوله: (جارية): الجارية: الشابة البكر.
قوله: (أمهلوا): أي تمهلوا، وتأخروا.
قوله: (حتى ندخل ليلاً): أي عشاء.
قوله: (كي تمتشط الشعثة): الشَّعَثُ، الْتِباد الشعَرِ واغْبِرَاره، وتفرُّقُه وتَنَفُّشُه2
قوله: (وتستحد المغيبة): الاستحداد استعمال الحديدة في شعر العانة، وهو إزالته بالموسى والمراد هنا إزالته كيف كانت، والمغيبة بضم الميم وكسر الغين وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها وإن حضر زوجها فهي (مشهد) بلا هاء.
قوله: (إذا قدمت فالكيس الكيس): قال ابن الأعرابي: الكيس الجماع، والكيس العقل والمراد حثه على ابتغاء الولد.3
المعنى الإجمالي للحديث:
يظهر لنا في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء من بعض غزواته وكان جابر بن عبد الله على بعير له ضعيف تأخر به عن القافلة فوخزه وجعل يسرع في مشيه والتفت إليه وأخذ يحدثه ويسائله عن حاله!
فأخبره أنه حديث عهد بعرس، وقد تزوج بامرأة ثيب من أجل أن له أخوات سبع أو تسع، وليس لهن من يقوم بشؤونهن، فهي التي تمشطهن وتصلح أمرهن، فسُر النبي صلى الله عليه وسلم وشكر صنيعه، ودعا له بالبركة، وأقبل الناس على المدينة بقدومهم، وأبطأ بأصحابه قائلاً لهم: (أمهلوا حتى ندخل ليلاً) من أجل أن يصلح النساء أنفسهن ويستعددن لأزواجهن بالاغتسال والتنظف.4
شرح الحديث:
هذا الحديث: فيه دليل على أنه يحسن التأني للقادم على أهله حتى يشعروا بقدومه قبل وصوله بزمان يتسع لما ذكر من تحسين هيئات من غاب عنهن أزواجهن من الامتشاط، وإزالة الشعر بالموسى مثلا من المحلات التي يحسن إزالته منها؛ وذلك لئلا يهجم على أهله وهم في هيئة غير مناسبة فينفر الزوج عنهن، والمراد إذا سافر سفراً يطيل فيه الغيبة كما دل له قوله.
وفي رواية للبخاري عن جابر (إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلاً).5
قال أهل اللغة: الطروق المجيء بالليل من سفر، وغيره على غفلة، ويقال لكل آت بالليل طارق، ولا يقال في النهار إلا مجازاً.
وقوله: (ليلاً): ظاهره تقييد النهي بالليل، وأنه لا كراهة في دخوله إلى أهله نهاراً من غير شعورهم.6
قال ابن حجر -رحمه الله-: "التقييد فيه بطول الغيبة يشير إلى أن علة النهي إنما توجد حينئذ، فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدما، فلما كان الذي يخرج لحاجته مثلا نهارا ويرجع ليلاً لا يتأتى له ما يحذر من الذي يطيل الغيبة كان طول الغيبة مظنة الأمن من الهجوم، فيقع الذي يهجم بعد طول الغيبة غالباً ما يكره، إما أن يجد أهله على غير أهبة من التنظف والتزين المطلوب من المرأة فيكون ذلك سبب النفرة بينهما، وقد أشار إلى ذلك بقوله في حديث (كي تستحد المغيبة، وتمتشط الشعثة) ويؤخذ منه كراهة مباشرة المرأة في الحالة التي تكون فيها غير متنظفة لئلا يطلع منها على ما يكون سببا لنفرته منها، وإما أن يجدها على حالة غير مرضية، والشرع محرض على الستر، وقد أشار إلى ذلك بقوله: "أن يتخونهم ويتطلب عثراتهم" فعلى هذا من أعلم أهله بوصوله وأنه يقدم في وقت كذا مثلاً لا يتناوله هذا النهي، وقد صرح بذلك ابن خزيمة في صحيحه، ثم ساق من حديث ابن عمر قال: " قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة فقال: (لا تطرقوا النساء) وأرسل من يؤذن الناس أنهم قادمون".
قال ابن أبي جمرة -نفع الله به ورحمه-: فيه النهي عن طروق المسافر أهله على غرة من غير تقدم إعلام منه لهم بقدومه، والسبب في ذلك ما وقعت إليه الإشارة في الحديث، قال: وقد خالف بعضهم فرأى عند أهله رجلاً فعوقب بذلك على مخالفته ا.هـ.
وأشار بذلك إلى حديث أخرجه ابن خزيمة عن ابن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطرق النساء ليلاً، فطرق رجلان كلاهما وجد مع امرأته ما يكره".
وأخرجه من حديث ابن عباس نحوه وقال فيه " فكلاهما وجد مع امرأته رجلا " ووقع في حديث محارب عن جابر " أن عبد الله بن رواحة أتى امرأته ليلاً وعندها امرأة تمشطها فظنها رجلاً، فأشار إليها بالسيف، فلما ذَكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يطرق الرجل أهله ليلاً"7.
وفي الحديث الحث على التواد والتحاب خصوصا بين الزوجين، لأن الشارع راعى ذلك بين الزوجين مع اطلاع كل منهما على ما جرت العادة بستره حتى إن كل واحد منهما لا يخفى عنه من عيوب الآخر شيء في الغالب، ومع ذلك فنهى عن الطروق لئلا يطلع على ما تنفر نفسه عنه فيكون مراعاة ذلك في غير الزوجين بطريق الأولى، ويؤخذ منه أن الاستحداد ونحوه مما تتزين به المرأة ليس داخلا في النهي عن تغيير الخلقة، وفيه التحريض على ترك التعرض لما يوجب سوء الظن بالمسلم.8
واختلف في علة التفرقة بين الليل والنهار، فعلل البخاري –كما سبق- في ترجمة الباب بقوله: "باب لا يطرق الرجل أهله ليلا إذا أطال الغيبة مخافة أن يتخونهم أو يلتمس عثراتهم" فعلى هذا التعليل يكون الليل جزء العلة؛ لأن الريبة تغلب في الليل، وتندر في النهار، وإن كانت العلة ما صرح به، وهو قوله: (لكي تمتشط...إلى آخره) فهو حاصل في الليل، والنهار قليل، ويحتمل أن يكون معتبراً على كلا التقديرين، فإن الغرض من التنظيف والتزيين هو تحصيل لكمال الغرض من قضاء الشهوة، وذلك في الأغلب يكون في الليل فالقادم في النهار يتأنى ليحصل لزوجته التنظيف والتزيين لوقت المباشرة، وهو الليل بخلاف القادم في الليل، وكذلك ما يخشى منه من العثور على وجود أجنبي هو في الأغلب يكون في الليل.
وفي هذا الحديث استعمال مكارم الأخلاق والشفقة على المسلمين والاحتراز من تتبع العورات، واجتلاب ما يقتضي دوام الصحبة، وليس في هذا الحديث معارضة للأحاديث الصحيحة في النهي عن الطروق ليلاً؛ لأن ذلك فيمن جاء بغتة، وأما هنا فقد تقدم خبر مجيئهم وعلم الناس وصولهم وأنهم سيدخلون عشاء، فتستعد لذلك المغيبة والشعثة وتصلح حالها وتتأهب للقاء زوجها، والله أعلم.9
من فوائد الحديث:
لهذا الحديث روايات عديدة وفوائد جمة وقد استنبط العلماء منه أحكاماً وحكماً لا تحصى، وفيه:
1-تفقد العظماء لأحوال الضعفاء وسؤالهم عن أحوالهم وبيوتهم.
2-وفيه أن البكر أفضل من الثيب للعلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.
3-وفيه مداعبة الكبير للصغير وإدخال السرور على قلب الفقير، وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم هذا البعير من جابر بأربعة دنانير، أو خمسة دنانير، وحين سلمه الثمن رد عليه البعير ليستعين به على سقيه وحرثه، وليستعين بثمنه على حاله، وهل توجد بالله عناية في أي دين أو قانون كعناية الإسلام بالضعفاء مساعدة، وبالنساء ملاطفة ومجاملة، تستر عوراتهن، وتقال عثراتهن، وتنصفهن هذه الشريعة من ظلم المستبدين، وعنت المستعبدين، فمالُها محفوظ، وعرضها مصان، ولها على الرجل جبر خاطرها، والترفق بها.10
4-لا ينبغي مفاجأة الزوجة بالقدوم من سفر، بل المشروع للمسلم إما ألا يطرقهم ليلا وإما أن يخبرهم بقدومه، ونحن في زمن قد تيسرت فيه سبل التواصل والاتصال، فخبر عن طريق الهاتف يزيل كل الإشكال ويجعل الأهل على كامل الأهبة والاستعداد..
5-من أعظم مقاصد الشرع الحفاظ على حسن العلاقات بين المسلمين وبالأخص بين الزوج وزوجته إذ هما السبب الكبير في إنجاب الأجيال وتربيتها.
6-ظهور معجزة النبي صلى الله عليه وسلم في نشاط البعير وسرعة حركته بعد أن كان بطيئا..
وغير ذلك من الفوائد.. والله أعلم وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.. |
Hlig,h pjn k]og gdghW gdghW
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
2 أعضاء قالوا شكراً لـ ملاك الورد على المشاركة المفيدة:
|
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 10:05 PM
|