شموع الحب
12-16-2021, 02:33 PM
اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ.
وأشهد أن لا إله إلا الله، لا يَكشفُ الضُّرَ سِواهْ، ولا يَدْعُو المضطَرُّ إِلاَّ إِيَّاهْ، نَعُوذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهْ، وَنُنْزِلُ فَقرَنا بِغِناهْ، وَنَستغفِرُهُ وَمن يَغفرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله.
اللهُ يَا أَعْذَبَ الأَلْفَاظِ فِي لُغَتِي اللهُ روحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَا أَجَلَّ حُرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
طُمُوحِي رَاحَتِي سَكَنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَا أَجْتَنِي الأُنْسَ إِلَّا مِنْ مَغَانِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ شَهْد الهَوَىَ والوُدُّ لَيْسَ لَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي مُهْجَةِ المُتَّقِي شَيْءٌ يُسَاوِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ حُبِّي وَسُلْوَانِي وَمَا فَتِئَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رُوحِي مَدَىَ العُمْرِ فِي شَوْقٍ تُغَنِّيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ إِنْ جَاءَتِ الدُّنْيَا بضَائِقَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَالْجَأْ إِلَيْهَا فَفِيهَا مَا يُجَلّيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخيرتُهُ من خلقهِ، وأمينُهُ على وحيهِ:
يا نبيَّ الهدى ويا خير صوتٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حين يتلى متيمًّا للحداةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يا محبًّا تَعلم الحب منه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثم آتى ثماره الناضجاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما رأينا في دفتر المجد أسمى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
منك حبًّا برغم كيد الوشاةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صغت للدهر قصة من نضالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفعالٍ أبيةٍ ذائعاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وحروفٍ منسوجةٍ من ضياءٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما توارى عن شاشة الذاكراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لو رميتم مفاتح الأرض عندي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأتيتم بالشمس والمقمراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ليس في شرعة الهوى من نكوصٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وعهودٍ مأجورةٍ مشتراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والأمور الصعاب تبدو لعيني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في رضا من أحبه هيناتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإذا أظلم الدجى قام يدعو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ويناجي بأدمعٍ واجفاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يا إلهي إن كنت راضيًا فإني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا أبالي بما أتوا من أذاةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــدُ:
عباد الله، إذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالُها، وترادفت الضوائق وطال ليلُها، وأجلبت الهموم بخيلها ورَجِلِها، وتاه الدليل في القفار، واستقت البحارُ من الركايا:
وَقَالَ السُّهَا لِلشَّمسِ أَنتِ كَسِيفَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَالَ الدُّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِل! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَفَاخَرَتِ الشُّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فعند ذلك؛ الصبر وحده – بإذن الله - هو الذي يشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، وتُبنى عليه الأعمال، وتعلَّق به الآمال، وتواجه به الأعباء مهما ثقُلت، يظل معه المؤمن بعيد النظر، موفور الثقة، دائم التفاؤل، بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها غيوم، فيظل مستمسكًا بالعروة الوثقى، ويبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابَها في سكون ويقين، فلا تذهله المفاجآت؛ وهو يقرأ قول الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
وذلك على حد قول الشاعر:
عَرَفْنا اللَّيالي قَبلَ مَا نَزَلَت بِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلمَّا دَهَتْنَا لَمْ تَزِدْنَا بِهَا عِلْما! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلِهَذَا؛ كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ.
ولكم أبدى الْقُرْآن فيه وأعادَ، وردَّد وكرَّر؛ حتى ذُكِر فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ مائةِ مرة، وأُمر به نبينا صلى الله عليه وسلم أمرًا صريحًا في الْقُرْآنِ أكثر من عشرين مرة، ولا نجد في الْقُرْآنِ عملًا ضُخِّم جزاؤه، وعُظِّم أجرُه مثلَه.
قَالَ ابن القيم: "الصبرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ"[1].
والصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى، وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ[2].
وقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: "الصَّبْرُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَالسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّة، وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَاتِ الْمَعِيشَةِ"[3]، على حد قول القائل:
ما رآني الأنام إلا رأوا مني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ابتسامًا ولا يدرون ما بي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أُظهر الابتسام للناس حتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يتمنوا لو أنهم في ثيابي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقِيلَ: "الصَّبْرُ أَنْ تَرْضَى بِتَلَفِ نَفْسِكَ فِي رِضَا مَنْ تُحِبُّهُ"[4]؛ كَمَا قِيلَ:
سَأَصْبِرُ كَيْ تَرْضَى وَأَتْلَفَ حَسْرَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَحَسَبِيَ أَنْ تَرْضَى وَيُتْلِفَنِي صَبْرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقد قِيلَ: "تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا، وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا"[5]، وَفِي شعب الإيمان: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَة))[6].
عباد الله، الصبرُ جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، ونور لا يخبو، وجندي لا يهزم، وحصن لا يهدم، وحجة في البلاء، وزاد في الابتلاء، وفيه عظيمُ الجزاء: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، لا يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا بغير حساب، ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ))[7]، ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حزنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ - إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ))[8]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
إنَّ الصبر من عناصر الرُّجولة الناضجةِ والبطولةِ الفارعة، فإنَّ أثقالَ الحياة لا يطيقها المهازيل والعجزة، ولا ينهض برسالتها، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا العمالقة الصابرون، ومن ثم؛ كان نصيبُ القادة من العناء والبلاء مكافئًا لما أُوتوا من مواهب، ولما أدُّوا من أعمال.
وسنة العظمة والاعتداد هي التي أوحتْ لقائد أمريكي كبير أن يقول: لا تسألِ الله أن يخفِّف حِملَك، ولكن اسأل الله أن يقوِّيَ ظهرك[9].
إن خفة الحمل، وفراغَ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير، لكن مشاغل العيش، ومرارة الكفاح، واستدامة السعي، هي أخلاق الجاهدين البنَّائين في الحياة.
ومن هنا؛ كرَّم الإسلام المنتصبين لأعراض الحياة، وواسى المجدِّين مواساةً تُطَمئن بالهم وتخفف آلامهم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ...))[10].
فالمؤمن السارب في الحياة هدفٌ لمشاكلها الجمة، أما العاجز الهارب من المسؤولية، فماذا يصيبه؟! وذاك سرُّ قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ))[11]، وقوله: ((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[12].
فالمتعرض لآلام الحياة - يدافعها وتدافعه - أرفعُ درجاتٍ عند الله من المنهزم القابع بعيدًا، لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، وما ادَّخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادَّخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل: ((يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ))[13].
عباد الله، إنَّ الصبر عصمة للإيمان وللنفس وللمجتمع، بل وللأمة كلِّها، وعندما تستقرئ الأمر به والخُبْر عنه؛ تجد أنه جماعُ الفضائلِ كلِّها، وأساسُها وأُسُّها.
وهذه نفس نبينا صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها، في ثباتها وصلابتها، في صفائها وشفافيتها تحتاج إلى التوجيه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]، ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7].
فالعز كل العز ينال بالصبر والتصبر والتجلد.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾ [السجدة: 24]؛ قَالَ: "أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاء"[14].
الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِنْ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فالصَّبْرُ دأبُ أَهْل الْعَزَائِمِ: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلِهَذَا؛ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ؛ فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
ولذا جاء الْأَمْرُ بِهِ صريحًا فِي الْقُرْآنِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]، ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200].
كما جاء النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]؛ فَإِنَّ إِبْطَالَهَا تَرْكُ الصَّبْرِ عَلَى إِتْمَامِهَا، وقوله: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [آل عمران: 139]؛ فَإِنَّ الْوَهْنَ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ[15].
الصبر خَيْرٌ كُلُّهُ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، ﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النساء: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبر))[16].
وأثنى الله عَلَى أَهْلِهِ: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
وأوجب مَحَبَّتَهُ ومَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ للصابرين؛ فقال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾[آل عمران: 149]، ﴿ واصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]؛ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: "فَازَ الصَّابِرُونَ بِعِزِّ الدَّارَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ نَالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"[17].
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].
بل إن الْجَزَاءَ لَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وحسبُك بقَوْلِهِ سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
وقوله: ﴿ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].
إنَّ الْفَوْزَ بالْمَطْلُوبَ الْمَحْبُوبَ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا يكون بِالصَّبْرِ: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24].
والصَّبْرُ يُورِثُ صَاحِبَهُ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ؛ فبِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ قال تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[السجدة: 24].
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ"[18].
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضِيَاءٌ، وَقَال: ((مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))[19]، وقال: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))[20]، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَثَرَةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَلْقَوْهُ عَلَى الْحَوْض، وَأَمَرَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَة، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم الْمُصَابَ بِأَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مُصِيبَتَهُ، وَيُوَفِّرُ أَجْرَهُ، وَالْجَزَعُ وَالتَّسَخُّطُ وَالتَّشَكِّي يَزِيدُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَيُذْهِبُ الْأَجْرَ[21].
وَ
وأشهد أن لا إله إلا الله، لا يَكشفُ الضُّرَ سِواهْ، ولا يَدْعُو المضطَرُّ إِلاَّ إِيَّاهْ، نَعُوذُ مِنْ سَخَطِهِ بِرِضَاهْ، وَنُنْزِلُ فَقرَنا بِغِناهْ، وَنَستغفِرُهُ وَمن يَغفرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله.
اللهُ يَا أَعْذَبَ الأَلْفَاظِ فِي لُغَتِي اللهُ روحِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَا أَجَلَّ حُرُوفٍ فِي مَعَانِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
طُمُوحِي رَاحَتِي سَكَنِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَا أَجْتَنِي الأُنْسَ إِلَّا مِنْ مَغَانِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ شَهْد الهَوَىَ والوُدُّ لَيْسَ لَهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فِي مُهْجَةِ المُتَّقِي شَيْءٌ يُسَاوِيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ حُبِّي وَسُلْوَانِي وَمَا فَتِئَتْ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
رُوحِي مَدَىَ العُمْرِ فِي شَوْقٍ تُغَنِّيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهُ إِنْ جَاءَتِ الدُّنْيَا بضَائِقَةٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فَالْجَأْ إِلَيْهَا فَفِيهَا مَا يُجَلّيهَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، وخيرتُهُ من خلقهِ، وأمينُهُ على وحيهِ:
يا نبيَّ الهدى ويا خير صوتٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
حين يتلى متيمًّا للحداةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يا محبًّا تَعلم الحب منه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ثم آتى ثماره الناضجاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما رأينا في دفتر المجد أسمى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
منك حبًّا برغم كيد الوشاةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
صغت للدهر قصة من نضالٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وفعالٍ أبيةٍ ذائعاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وحروفٍ منسوجةٍ من ضياءٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ما توارى عن شاشة الذاكراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لو رميتم مفاتح الأرض عندي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وأتيتم بالشمس والمقمراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ليس في شرعة الهوى من نكوصٍ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وعهودٍ مأجورةٍ مشتراتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
والأمور الصعاب تبدو لعيني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
في رضا من أحبه هيناتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فإذا أظلم الدجى قام يدعو https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ويناجي بأدمعٍ واجفاتِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يا إلهي إن كنت راضيًا فإني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لا أبالي بما أتوا من أذاةِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعــدُ:
عباد الله، إذا استحكمت الأزمات وتعقَّدت حبالُها، وترادفت الضوائق وطال ليلُها، وأجلبت الهموم بخيلها ورَجِلِها، وتاه الدليل في القفار، واستقت البحارُ من الركايا:
وَقَالَ السُّهَا لِلشَّمسِ أَنتِ كَسِيفَةٌ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقَالَ الدُّجَى لِلبَدرِ وَجهُكَ حَائِل! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَطَاوَلَتِ الأَرضُ السَّمَاءَ سَفَاهَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَفَاخَرَتِ الشُّهبَ الحَصَى وَالجَنَادِلُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فعند ذلك؛ الصبر وحده – بإذن الله - هو الذي يشع للمسلم النورَ العاصم من التخبط، والهداية الواقية من القنوط، وتُبنى عليه الأعمال، وتعلَّق به الآمال، وتواجه به الأعباء مهما ثقُلت، يظل معه المؤمن بعيد النظر، موفور الثقة، دائم التفاؤل، بادي الثبات، لا يرتاع لغيمة تظهر في الأفق ولو تبعتها غيوم، فيظل مستمسكًا بالعروة الوثقى، ويبقى موقنًا بأن بوادر الصفو لا بد آتية، وأن من الحكمة ارتقابَها في سكون ويقين، فلا تذهله المفاجآت؛ وهو يقرأ قول الله: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ﴾ [محمد: 31].
وذلك على حد قول الشاعر:
عَرَفْنا اللَّيالي قَبلَ مَا نَزَلَت بِنَا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلمَّا دَهَتْنَا لَمْ تَزِدْنَا بِهَا عِلْما! https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلِهَذَا؛ كَانَ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ، وَلَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا صَبْرَ لَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا جَسَدَ لِمَنْ لَا رَأْسَ لَهُ.
ولكم أبدى الْقُرْآن فيه وأعادَ، وردَّد وكرَّر؛ حتى ذُكِر فِي الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ مائةِ مرة، وأُمر به نبينا صلى الله عليه وسلم أمرًا صريحًا في الْقُرْآنِ أكثر من عشرين مرة، ولا نجد في الْقُرْآنِ عملًا ضُخِّم جزاؤه، وعُظِّم أجرُه مثلَه.
قَالَ ابن القيم: "الصبرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ؛ فَإِنَّ الْإِيمَانَ نِصْفَانِ: نِصْفُ صَبْرٍ، وَنِصْفُ شُكْرٍ"[1].
والصَّبْرُ: حَبْسُ النَّفْسِ عَنِ الْجَزَعِ وَالتَّسَخُّطِ، وَحَبْسُ اللِّسَانِ عَنِ الشَّكْوَى، وَحَبْسُ الْجَوَارِحِ عَنِ التَّشْوِيشِ[2].
وقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: "الصَّبْرُ: التَّبَاعُدُ مِنَ الْمُخَالَفَاتِ، وَالسُّكُونُ عِنْدَ تَجَرُّعِ غُصَصِ الْبَلِيَّة، وَإِظْهَارُ الْغِنَى مَعَ حُلُولِ الْفَقْرِ بِسَاحَاتِ الْمَعِيشَةِ"[3]، على حد قول القائل:
ما رآني الأنام إلا رأوا مني https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ابتسامًا ولا يدرون ما بي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
أُظهر الابتسام للناس حتى https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
يتمنوا لو أنهم في ثيابي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقِيلَ: "الصَّبْرُ أَنْ تَرْضَى بِتَلَفِ نَفْسِكَ فِي رِضَا مَنْ تُحِبُّهُ"[4]؛ كَمَا قِيلَ:
سَأَصْبِرُ كَيْ تَرْضَى وَأَتْلَفَ حَسْرَةً https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَحَسَبِيَ أَنْ تَرْضَى وَيُتْلِفَنِي صَبْرِي https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَقد قِيلَ: "تَجَرَّعِ الصَّبْرَ، فَإِنْ قَتَلَكَ قَتَلَكَ شَهِيدًا، وَإِنْ أَحْيَاكَ أَحْيَاكَ عَزِيزًا"[5]، وَفِي شعب الإيمان: ((سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْإِيمَانِ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ، وَالسَّمَاحَة))[6].
عباد الله، الصبرُ جواد لا يكبو، وصارم لا ينبو، ونور لا يخبو، وجندي لا يهزم، وحصن لا يهدم، وحجة في البلاء، وزاد في الابتلاء، وفيه عظيمُ الجزاء: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، لا يوزن لهم ولا يكال، إنما يغرف لهم غرفًا بغير حساب، ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ))[7]، ((مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حزنٍ، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ - إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ))[8]، ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 142].
إنَّ الصبر من عناصر الرُّجولة الناضجةِ والبطولةِ الفارعة، فإنَّ أثقالَ الحياة لا يطيقها المهازيل والعجزة، ولا ينهض برسالتها، ولا ينقلها من طور إلى طور إلا العمالقة الصابرون، ومن ثم؛ كان نصيبُ القادة من العناء والبلاء مكافئًا لما أُوتوا من مواهب، ولما أدُّوا من أعمال.
وسنة العظمة والاعتداد هي التي أوحتْ لقائد أمريكي كبير أن يقول: لا تسألِ الله أن يخفِّف حِملَك، ولكن اسأل الله أن يقوِّيَ ظهرك[9].
إن خفة الحمل، وفراغَ اليد، وقلة المبالاة صفات قد يظفر الأطفال منها بقسط كبير، لكن مشاغل العيش، ومرارة الكفاح، واستدامة السعي، هي أخلاق الجاهدين البنَّائين في الحياة.
ومن هنا؛ كرَّم الإسلام المنتصبين لأعراض الحياة، وواسى المجدِّين مواساةً تُطَمئن بالهم وتخفف آلامهم: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفِيئُهَا الرِّيحُ، تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى، حَتَّى تَهِيجَ...))[10].
فالمؤمن السارب في الحياة هدفٌ لمشاكلها الجمة، أما العاجز الهارب من المسؤولية، فماذا يصيبه؟! وذاك سرُّ قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا، يُصِبْ مِنْهُ))[11]، وقوله: ((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))[12].
فالمتعرض لآلام الحياة - يدافعها وتدافعه - أرفعُ درجاتٍ عند الله من المنهزم القابع بعيدًا، لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، وما ادَّخره الله لأولئك العانين الصابرين يفوق ما ادَّخره لضروب العبادات الأخرى من ثواب جزيل: ((يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالْمَقَارِيضِ))[13].
عباد الله، إنَّ الصبر عصمة للإيمان وللنفس وللمجتمع، بل وللأمة كلِّها، وعندما تستقرئ الأمر به والخُبْر عنه؛ تجد أنه جماعُ الفضائلِ كلِّها، وأساسُها وأُسُّها.
وهذه نفس نبينا صلى الله عليه وسلم في تجردها وانقطاعها، في ثباتها وصلابتها، في صفائها وشفافيتها تحتاج إلى التوجيه بالصبر: ﴿ فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، ﴿ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 109]، ﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴾ [المدثر: 7].
فالعز كل العز ينال بالصبر والتصبر والتجلد.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ﴾ [السجدة: 24]؛ قَالَ: "أَخَذُوا بِرَأْسِ الْأَمْرِ فَجَعَلَهُمْ رُؤَسَاء"[14].
الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لَكِنْ عَوَاقِبَهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فالصَّبْرُ دأبُ أَهْل الْعَزَائِمِ: ﴿ وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [الشورى: 43].
عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكَرِيمِ الْكَرَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَيَكْبُرُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صَغِيرُهَ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَتَصْغُرُ فِي عَيْنِ الْعَظِيمِ الْعَظَائِمُ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وَلِهَذَا؛ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ خَاصَّةَ أَوْلِيَائِهِ وَأَحْبَابِهِ؛ فَقَالَ عَنْ حَبِيبِهِ أَيُّوبَ: ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ﴾ [ص: 44]، ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ﴿ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 44].
ولذا جاء الْأَمْرُ بِهِ صريحًا فِي الْقُرْآنِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 153]، ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]، ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ﴾ [آل عمران: 200].
كما جاء النَّهْيُ عَنْ ضِدِّهِ كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 33]؛ فَإِنَّ إِبْطَالَهَا تَرْكُ الصَّبْرِ عَلَى إِتْمَامِهَا، وقوله: ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾ [آل عمران: 139]؛ فَإِنَّ الْوَهْنَ مِنْ عَدَمِ الصَّبْرِ[15].
الصبر خَيْرٌ كُلُّهُ؛ قال تعالى: ﴿ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، ﴿ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النساء: 25]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبر))[16].
وأثنى الله عَلَى أَهْلِهِ: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
وأوجب مَحَبَّتَهُ ومَعِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ للصابرين؛ فقال: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾[آل عمران: 149]، ﴿ واصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]؛ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ: "فَازَ الصَّابِرُونَ بِعِزِّ الدَّارَيْنِ؛ لِأَنَّهُمْ نَالُوا مِنَ اللَّهِ مَعِيَّتَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"[17].
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 96].
بل إن الْجَزَاءَ لَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].
وحسبُك بقَوْلِهِ سبحانه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155].
وقوله: ﴿ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 80].
إنَّ الْفَوْزَ بالْمَطْلُوبَ الْمَحْبُوبَ، وَالنَّجَاةَ مِنَ الْمَكْرُوهِ الْمَرْهُوبِ، وَدُخُولَ الْجَنَّةِ، إِنَّمَا يكون بِالصَّبْرِ: ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24].
والصَّبْرُ يُورِثُ صَاحِبَهُ دَرَجَةَ الْإِمَامَةِ؛ فبِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ تُنَالُ الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ؛ قال تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾[السجدة: 24].
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "خَيْرُ عَيْشٍ أَدْرَكْنَاهُ بِالصَّبْرِ"[18].
وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ ضِيَاءٌ، وَقَال: ((مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ))[19]، وقال: ((وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ))[20]، وَأَمَرَ الْأَنْصَارَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْأَثَرَةِ الَّتِي يَلْقَوْنَهَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَلْقَوْهُ عَلَى الْحَوْض، وَأَمَرَ عِنْدَ مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ بِالصَّبْرِ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْمُصِيبَة، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم الْمُصَابَ بِأَنْفَعِ الْأُمُورِ لَهُ، وَهُوَ الصَّبْرُ وَالِاحْتِسَابُ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُخَفِّفُ مُصِيبَتَهُ، وَيُوَفِّرُ أَجْرَهُ، وَالْجَزَعُ وَالتَّسَخُّطُ وَالتَّشَكِّي يَزِيدُ فِي الْمُصِيبَةِ، وَيُذْهِبُ الْأَجْرَ[21].
وَ