02-11-2015, 11:49 AM
|
|
|
|
الفصل الأول نزول القرآن الكريم منجما
الفصل الأول نزول القرآن الكريم منجما
تمهيد
إن البحث في نزول القرآن بحث مهمّ وجليل، لأن العلم به أساس للإيمان بالقرآن وأنه كلام الله المنزل، وأساس للتصديق برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
أ- تنزلات القرآن الكريم:
للقرآن الكريم تنزلات ثلاثة:
الأول: تنزله إلى اللوح المحفوظ، ودليل ذلك قول الله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21- 22].
الثاني: تنزله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ودليله قول الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} [الدخان: 3]. وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وقوله: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].
وأخرج النسائي والحاكم عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزل به على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج النسائي والحاكم من طريق داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا ليلة القدر، ثم أنزل بعد ذلك في عشرين سنة. ثم قرأ: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 105- 106].
الثالث: تنزل القرآن من بيت العزة في السماء الدنيا على قلب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السلام منجما، قال الله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193- 195].
ب- نزول القرآن منجما:
تتابع نزول القرآن منجما، فكانت تنزل الآية أو الآيتان أو الآيات في أوقات مختلفة، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106].
ويضاف إلى هذا الدليل القرآني الصريح، أنه قد ثبت ثبوتا قاطعا في السنة والسيرة النبوية أن القرآن لم ينزل على رسول الله جملة واحدة، وإنما نزل مفرّقا خلال مدة بعثته المباركة والتي قدرت بثلاثة وعشرين عاما تقريبا، قال السيوطي في (الإتقان): الذي استقرئ من الأحاديث الصحيحة وغيرها: أن القرآن كان ينزل بحسب الحاجة، خمس آيات وعشرا، وأكثر وأقلّ، وقد صح نزول العشر آيات في قصة الإفك جملة، وصحّ نزول عشر آيات من أول المؤمنون جملة، وصحّ نزول: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] وحدها، وهي بعض آية...
وكان هذا التنجيم في نزول القرآن سببا في اعتراض اليهود والمشركين وتساؤلهم: لماذا لم ينزل القرآن كما نزلت التوراة جملة واحدة؟ وقد أنزل الله عزّ وجلّ آية كريمة تسجّل هذا الاعتراض وتردّ عليه، وهي قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32].
حكم نزول القرآن منجما:
نستطيع أن نتعرّف على حكم نزول القرآن منجّما من الآيتين الكريمتين:
وهذا ما صرّحت به الآية: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} وكان النبيّ عليه الصلاة والسلام بحاجة لهذا التثبيت وهو يواجه من الناس القسوة والنفور، ويجد من الكثيرين في مكة الغلظة والجفاء والإصرار على الكفر، مع رغبته الصادقة في هدايتهم إلى الحق، فكان الوحي يتنزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين وقت وآخر فيشحذ من همته ويزيد من صبره وتحمله، بل كان ينزل القرآن في أحلك الأوقات وأقسى الحالات شدة، وإذا بالآيات تدعو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى متابعة الطريق بكل صبر وثبات، وتقصّ عليه ما لقي الأنبياء من أتباعهم من قسوة وعناد، قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا} [الأنعام: 33- 34].
قال أبو شامة: فإن قيل: ما السرّ في نزول القرآن منجما؟ وهلّا أنزل كسائر الكتب جملة؟ قلنا: هذا سؤال قد تولّى الله جوابه فقال تعالى: {كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ} أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدّد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشدّ عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز، فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقياه جبريل.
وذلك لأن القرآن نزل على أمة تغلب فيها الأمية، فلا تعرف القراءة والكتابة، وإنما سجلها ذاكرتها؛ قال تعالى في إثبات ذلك: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. فكان من رحمة الله بهذه الأمة أن يسّر لها حفظ القرآن وسهّل عليهم فهم آياته التي تنزل مفرقة خلال فترات متقطعة من الزمن فيحفظونها ويفهمونها. وكأن القرآن بنزوله منجما رسم للصحابة الكرام منهجا تعليميا طبقوه في حياتهم وتوارثه عنهم التابعون وهو التعلّم التدريجي. أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات. وأخرج ابن عساكر عن أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة، وخمس آيات بالعشي، ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.
قضت إرادة الله أن يتم الإصلاح الاجتماعي بصورة تدريجية؛ لأنه ليس من الممكن أن ينقلب المجتمع الجاهلي الفاسد بين عشية وضحاها إلى مجتمع صالح، فكانت آيات القرآن تراعي الانقلاب التدريجي، وتراعي بناء الأسس الثابتة لهذا التغيير، فنزلت أولا الآيات المتعلقة بالعقيدة ودلائلها، والآيات الداعية إلى محاسن الأخلاق، حتى إذا آمن الناس وزكت نفوسهم نزلت آيات الحلال والحرام في تدرج حكيم. ويدل على ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى.
وإيجاد الحلول المناسبة للحوادث الطارئة، لتكون آيات القرآن أوقع في النفس وألصق بالحياة؛ ومن ذلك:
لما توفي عبد الله بن أبيّ- رأس المنافقين- دعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للصلاة عليه، فقام عليه، فلما وقف قال عمر: أعلى عدوّ الله عبد الله بن أبي القائل كذا وكذا، والقائل كذا وكذا؟ يعدّد أيامه. ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبتسم، ثم قال له: «إني قد خيّرت، قد قيل لي: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر لزدت عليها». ثم صلّى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومشى معه حتى قام على قبره حتى فرغ منه، قال عمر: فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله ورسوله أعلم، فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان:
وحين تخلّف نفر من المؤمنين الصادقين في غزوة تبوك، وأقاموا بالمدينة، ولم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لديهم عذرا، هجرهم وقاطعهم، حتى ضاقوا ذرعا بالحياة، ثم نزل القرآن بقبول توبتهم، فكان درسا في عدم التخلف عن الجهاد لا يمكن أن ينساه أو يتجاهله أي مسلم، قال تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 117- 118].
لقد عرفت أن هذا القرآن نزل مفرقا على رسول الله في مدة ثلاثة وعشرين عاما، تنزل منه الآية أو الآيات في فترات زمنية مختلفة، ومع ذلك فإنك تجده من أوله إلى آخره محكم السرد، دقيق السبك، متين الأسلوب، قويّ الاتصال، آخذا بعضه برقاب بعض في سوره وآياته وجمله، وكأنه عقد فريد نظمت حباته بشكل دقيق وفريد بما لم يعهد له مثيل من كلام البشر لا من قبل ولا من بعد. قال تعالى: {الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. وهذا التناسق وعدم الاختلاف في أسلوب القرآن أكبر دليل على أنه كلام الله العليم الحكيم؛ إذ لو كان من كلام المخلوقين لظهر فيه الاختلاف من سنة إلى أخرى؛ قال تعالى: {وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]. وحتى أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رغم أنها في ذروة الفصاحة والبلاغة بعد القرآن، فإنها لا تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة فيه وحدة وترابط كالقرآن، أو ما يدانيه في الاتساق والانسجام.
والدلالة من خلال الآيات القرآنية المنجمة على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتم النّبيّين، وتشكّل السيرة النبوية من خلال الحوادث، وضمّها إلى قصص الأنبياء، وسير المرسلين، وحياة الأمم السابقين، وتوثيق ذلك إلى درجة التواتر، ورسم القواعد التي تبنى وفقها السيرة النبوية بوصفها المقدمة للتاريخ الإسلامي منذ جيل الصحابة وحتى عصرنا الحاضر.
{وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ} [الإسراء: 106] {وكَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32] اللتين ورد فيهما الردّ على اعتراض المشركين واليهود بالحجة الدامغة، كما أن هناك أسرارا لهذا التنجيم تدرك بالعقل والاجتهاد، وهذه الحكم والأسرار هي:1- تثبيت فؤاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:2- تيسير حفظ القرآن وتسهيل فهمه:3- التدرج في التشريع:4- مسايرة الحوادث:{وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] فما صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منافق بعد حتى قبضه الله عزّ وجلّ.5- الدلالة القاطعة على أن القرآن كلام الله وحده:6- توثيق وقائع السيرة النبوية:
hgtwg hgH,g k.,g hgrvNk hg;vdl lk[lh hgH,g hgtag hgrvNk hg;vdl
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتْوبُ إِلَيْكَ
|
تعليمات المشاركة
|
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك
كود HTML معطلة
|
|
|
الساعة الآن 05:26 PM
|