مسائل في عذاب القبر ونعيمه عذاب القبر ونعيمه ثابتان بالكتاب والسُّنَّة والإجماع:
فمِنْ الكتاب: قوله تعالى: ﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ﴾ [غافر: ٤٥ – ٤٦]،
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: " هذه الآية أصل كبير في استدلال
أهل السُّنة على عذاب البرزخ في القبور ". ومن السُّنة: أحاديث كثيرة منها حديث البراء رضي الله عنه - وقد تقدَّم - ومنهـا: أ- حديث أنس رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "" إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ
وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ "، قَالَ: " يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ
مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ "، قَالَ: " فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ "، قَالَ:
" فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ ".
قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا "...، وأما الكافر أو المنافق فيقول:
" لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ
ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيـْنِ "[1]. ب- وحديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لها:
" عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ "[2]، وتقدَّم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي، وحديث عائشة - رضي الله عنها -
المتفق عليه، وأنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم استعاذ من عذاب القبر، والأحاديث في هذا الباب كثيرة. • وأجمع السلف رحمهم الله على إثبات عذاب القبر، بل كل المسلمين يقولون في صلاتهم: " اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب جهنم... "، ولو كان غير مُجْمَع عليه، لَماقالوه في صلاتهم.
عذاب القبر يسمعه كل شيء إلا الجنّ والإنس:
ويدلّ على ذلك: ما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه المتفق عليه، وفيه قال النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:
" ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيـْنِ"[3]. فإن قيل: لماذا أخفى الله - عزَّ وجل - عذاب القبر؟
فالجواب - رعاك الله -: أنَّ الله تعالى أخفى عذاب القبر؛ لعدة حِكَم منها: 1. رحمته جلَّ وعلا بعباده، إذ لو كشف العذاب لهم؛ لتنكد عيشهم، وتواصلت أحزانهم. 2. أنَّ في كشف العذاب فضيحة للميت. 3. أنَّ في كشف العذاب عدم تَدَاُفن الناس بعضهم لبعض، فلو كُشِفَ العذاب
لَمَا دفن أحدٌ ميتًا؛ خوفًا من سوء العاقبة، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:
" فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا؛ لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ "[4]. عذاب القبر، أو نعيمه حاصل لكل إنسان أيًا كان.
سواء أحرق، أو غَرِق، أو أكلته السباع، والطيور، أو مات على أية حال كان، فإنه بموته
ينتقل لحياته البرزخية سواءً دُفِن أو لم يُدْفَن؛ وذلك لأنَّ الإنسان مركب من جسد وروح
وهذه الروح بعد الموت تخرج من الجسد فتبقى إمَّا معذَّبة، أو منعَّمة.
هل عذاب القبر، أو نعيمه على الروح، أو البدن؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " مذهب سلف الأمة وأئمتها أن العذاب
والنعيم يحصل لروح الميت وبدنه، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن معذَّبة أو منعَّمة
وأنها تتصل بالبدن أحيانًا، فيحصل له معها النعيم، والعذاب "[5]. فائدة: تقدَّم أنَّ مذهب سلف الأمَّة أنَّ عذاب القبر يكون على البدن والروح
فالروح تتعلَّق بالبدن في خمسة مواطن: 1. تعلّقها في بطن الأم جنينًا. 2. تعلّقها به بعد ولادته. 3. تعلّقها به في حال النوم. 4. تعلّقها به في البرزخ. 5. تعلّقها به يوم البعث.
وهل يستمر عذاب القبر؟
قال شيخنا ابن عثيمين رحمه الله: " أمَّا إذا كان الإنسان كافرًا - والعياذ بالله -
فإنه لا طريق إلى وصول النعيم أبدًا، ويكون عذابه مستمرًا، وأمَّا إن كان عاصيًا، وهو مؤمن
فإنه إذا عُذِّب بقبره يعُذَّب بقدر ذنوبه، وربما يكون عذاب ذنوبه أقل من البرزخ
الذي بين موته وقيام الساعة، وحينئذ يكون منقطعًا "[6]. وهل يستفيد المسلم من فتنة القبر؛ بتخفيف سيئاته، أو محوها؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " السبب الثامن: ما يحصل في القبر من الفتنة
والضغطة، والروعة، فإنَّ هذا مِمَّا يكفَّر به الخطايا ".
وقال أيضًا: "ما يحصل للمؤمن في الدنيا، والبرزخ، والقيامة من الألم التي هي عذاب:
فإنه ذلك يُكَفِّر الله به خطاياه؛ كما ثبت في الصحيحين عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ، وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا
إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهِ مِنْ خَطَايَاهُ "[7].
مستلة من: "فقه الانتقال من دار الفرار إلى دار القرار"
[1] رواه البخاري برقم (1338)، رواه مسلم برقم (2870).
[2] رواه البخاري برقم (1372)، رواه مسلم برقم (584) رواه النسائي برقم (1309).
[3] رواه البخاري برقم (1338)، رواه مسلم برقم (2870).
[4] رواه مسلم برقم (2867) من حديث أنس - رضي الله عنه -.
[5] انظر: مجموع الفتاوى (4 /282).
[6] انظر: الممتع (3/ 253).
[7] انظر: مجموع الفتاوى (7 /500).