العقل المنظّم يتفوق كثيرا على العقل العشوائي، لأسباب عديدة ونتائج أظهرتها التجارب العملية، وينسحب هذا التوصيف على الامور والادوات الاخرى التي تدخل في انشطة الانسان المختلفة، فالشروع في تنفيذ هدف معين، يستدعي نوعا من التخطيط والاستعداد والدقة والتدرّج التراتبي في التنفيذ، وكلما كان عنصر
التنظيم حاضرا، كلما كانت وتيرة العمل متوازنة مستقرة ومستمرة في الوقت نفسه، فضلا عن ضمان النتائج الجيدة.على العكس من ذلك تماما، حينما تسود العشوائية، فتشتبك البدايات مع النهايات، وتضيع الرؤى والخطوات والافكار في بعضها وتتصادم في بينها، لنصل أخيرا الى (لا شيء)، أيضا هذا ما أثبتته الوقائع والتجارب، تعود هذه المتناقضات الى الانسان نفسه، بمعنى اوضح، هناك انسان منظّم بطبعه، وآخر عشوائي، لا يعي
التنظيم وأهميته، أو أنه غير قادر على إتقان هذا الشرط الاساسي لتحسين المنتَج في شقّيه المادي والفكري.من الواضح أن المجتمعات التي سبقتنا الى الاستقرار والتقدم، اعتمدت
التنظيم منهجا لأعمالها كافة، الجماعية والفردية، بمعنى أن الانسان في المجتمع المتقدم منظّم، إذ تقوم حياته كلها بتفاصيلها كافة وفق نظام محسوب ومخطط له مسبقا، نحن في الحقيقة نفتقر لمثل هؤلاء الناس المنظمين في الغالب، ونعني بذلك المنهج او السلوك العام لمعظم المجتمعات العربية والاسلامية، والدول التي لا تزال تقبع في مجاهيل الفوضى.إننا نحتاج الى الانسان الذي يعي ويؤمن بأهمية التنظيم، كمنهج حياتي يومي، يسير عليه في أعماله ومشاريعه الصغيرة والكبيرة، ومن مجموع الافراد يتشكل جماعة او مجتمع لا يستغني عن
التنظيم في حياته، هناك مؤشرات وعلامات يمكن أن نأخذها من حركة الشارع والاسواق والمقاهي والمدارس والمعامل في حياتنا العامة، من الواضح أن العشوائية هي التي تسيطر على أنشطتنا المتنوعة، يمكننا أن نلاحظ هذه الظاهرة في كل مكان!! وكل زمان، في الشكل، أو الحركة البشرية وسواها، فالدوائر الخدمية تغص بالعشوائية، ومنها دوائر البلديات نفسها، كذلك دوائر الصحة والمستشفيات، المدارس كذلك تكتنفها العشوائية، أما الشوارع فهي قمة في غياب
التنظيم وضعف النظام، حيث الباعة يفترشون الارصفة، والازبال تتراكم في غير الاماكن المخصصة لها، أما الحفريات (بحجة الاعمار والبناء)، فحدّث ولا حرج في ذلك!.إن هذه المؤشرات مجتمعة تدل على أننا مجتمع (عشوائي)، لا يعتمد منهج
التنظيم في ادارة شؤونه اليومية المختلفة، على مستوى الافراد او الجماعات، وعلى المستوى الاهلي والرسمي ايضا، لدرجة أننا نشعر باشتراك جماعي في هذه الظاهرة، خاصة أن الانسان المنظّم يضيع في وسط هذا السيل العشوائي الجارف بحياتنا اليومية في كل تفاصيلها، وليست هناك مغالاة في هذه الرأي الذي يميل الى التشاؤم.إننا نحتاج أن نؤشر اخطاءنا بوضوح وحزم، حتى نبدأ بالشروع الفوري لمعالجتها وفق منهج التخطيط والتنظيم، يقول احد الكتاب في هذا المجال: (إن الكثير من دول العالم الثالث تعاني من سوء
التنظيم في أمورها العامة أو من عدم تطبيق التعليمات والأنظمة بالشكل الصحيح، ويعود ذلك غالباً إلى سوء الأنظمة أو عدم وضوحها أو عدم الجدية في التقيد والالتزام بها، ويؤثر هذا سلباً على تعامل الأفراد فيما بينهم وبين مؤسسات الدولة، أو في أمورهم الخاصة وعادة ما ينتج عن سوء
التنظيم اختلاط في الأمور وعدم وضوح للرؤية).للقضاء على هذه الظاهرة، لابد من صناعة الفرد المنظّم، ولابد في الوقت نفسه من تحييد العشوائية بالقدر الممكن وفي تدرّج عملي، يبدأ من البيت والمحيط العائلي، فالعائلة يمكنها ان تغرس حبالتنظيم في شخصية الطفل، والمدرسة يمكنها ان تفعل الشيء نفسه، وتطور رغبة
التنظيم لدى طلابها، ويؤكد أحد المختصين: (أن الأسرة والمدرسة والأجهزة الإعلامية المختلفة، مطالبة بإعطاء الجانب التعليمي للتنظيم في حياتنا العناية الكافية، فبالتنظيم الجيد تنجح الأمم وتتقدم وعادة ما يصاحب حسن
التنظيم النجاح، فالطالب المنظم ناجح في دراسته وربما العكس صحيح).ويمكن أن يمتد هذا الفعل الى المؤسسات الرسمية والمنظمات الاهلية، لكي نسهم جميعا في صناعة انسان ومجتمع ينبذ العمل والتفكير العشوائي، ويتمسك بالتنظيم كطريقة ومنهج حياة دائمة، فصناعة الفرد المنظّم، تعني بالنتيجة صناعة مجتمع لا عشوائي. .‘