يُكدِّر صفوَ العمر ساعتانِ: أَلَمٌ يُهِم، أو همٌّ يُلِم، وكلاهما يعتل به البدن، وتَضْنَى به الروح، ولكن لو أدرَكْنا أنه في رحم
الألم جنينٌ للأمل ينبض، ينمو ويكبَرُ، ويستدفئ بنار الألم، فيحيا وينضج، وبعض الناس يَضيق بهذا الجنين فيَئِده قبل مولده، ليموت معه باليأس، وبعدها يجول في الأرض حيرانَ بين آلامه واليأس، محصورًا بين المِطْرقة والسندان، ينتظر ضربة تطحنُه، وهكذا شأن المحبَطين السائرين في ليل اليأس، وقد أطفؤوا بأيديهم بارقة الأمل، ثم قعَدوا يصرخون: يا ضيعتَنا، أين المصير؟!
وعلى الجانب المضيء بعضُ الناس في عز
الألم يفتِّش عن بصيص الأمل، فيرعاه حتى التمام؛ ليخرج للحياة، فيكون عصاه التي يتوكَّأ عليها من كسرة النفس بالألم، وانحناءةِ الظهر بالهم؛ حتى يلتئم كسرُه، ويستقيم ظهره، وهذه نفوس كالشموس، استضاءت بنور الوحي، وتلمَّست خُطى النبي صلى الله عليه وسلم، فانظر فيما وقع للمسلمين بغزوة الخندق؛ مِن حَصْرٍ وجوع، وخوف وكرب، وقلة عَدد، ونقص عتاد وعُدة؛ حيث تجمَّع حولهم كفَّارُ العرب، وشَدُّوا عليهم بقوس واحدة، وانتهزت الفرصةَ يهودُ، فنقضوا عهد الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وتواصلوا مع العُداة المحاصرين، وما مِن المسلمين إلا ويربط حجر الجوع يُسكِت به البطن، يرغمه على الصبر، مع عظم البذل في الحَفْر؛ ليُحصِّنوا حول المدينة.
وفي تلك الظروف تَعرِضُ لهم (كُدْيَة) - صخرة صلبة - تكسِرُ حديدهم، ولا تفُلُّها جهودهم، فرفَعوا خبرها للنبي صلى الله عليه وسلم، فيضرِبها من فورِه بالفأس، فتبرق منها ثلاث برقات تضيء جوف الليل، ويُبشِّرهم بفتح اليمن والشام وفارس، بشارةً في ظلمة الليل بوَلِيد
الأمل مِن بين ألم وكرب، مما غاظ المنافقين، فقالوا: نخندق حول أنفسنا من الخوف، ولا نستطيع البراز، ويُحدِّثنا عن الفتح؟! في إحدى أراجيفهم لتنثني العزائم بنِيرِ اليأس، ولكن هَيْهَات وبينهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما مات، فكان فعله منارةً يستضيء به ليل اليَؤُوس.
ليتعلم الجميع أن الأمل جنين يتحرك بين أحشاء الألم ينمو، وغدًا يرى النور!
وهكذا كان دومًا شأن النبي صلى الله عليه وسلم؛ يحب حسن الفأل، ويرى النصر خلف الغيم، وانظر يوم أخرجوه يوم هجرته، عندما طارده سُراقة وغيره؛ ليأخذوا ما رصده المشركون مِن مكافأة لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حيًّا أو ميتًا، يا لكيدهم! فكان منه ما يقتضي العجب؛ أمَّن سراقةَ وهو صلى الله عليه وسلم في موقف الخائف المطارد، ووعده بسوارَي كِسْرى وما عنده من مالٍ، وأين وقتها الجند؟ وكم بينه وبين كسرى وسواريه؟ إنه الأمل،
جنين يتحرك بين أحشاء
الألم ينمو، وغدًا يرى النور!
وأنت كيف يكون حالك إن أحاط بك أيُّ كرب: غلبة دَيْن، أو آهات من المرض، أو قهر من رجال، أو كيد من نساء، أو فقر كاد يُنسي، أو عقوق مِن ولد، أو حبس وقيد، أو تجارة كسدت، أو دعوة ليس لها تابعون، أو تضييق على الصالحين، أو أدنى ملمَّة قد حلقت بالأمة؟!
هل تسلم نفسك لليأس، وتشرب من مرِّ الكأس، أم أنك تثقُ في عونِ ربك، وتترقب أملًا وليدًا من بين أحشاء الألم؟! فمِن أي نوع الناس أنت؟ أسير اليأسِ أم طليق بالأمل؟
شتَّان ما بين الحالين: نفس يَؤُوس، تستكين للعجز، ونفس طموح تأباه وتستعين بالله، وهي تعلم علمَ اليقين أن كل عسرٍ قد حاطه يُسرانِ، فلماذا الإحباط واليأس، وذلة الأحزان والهم؟ وما اليأس إلا فكرةٌ سوداء في النفس تُطفِئ الأنوار، وتختبئ خلف الستار، وتتَّهِم الأقدار!
دَعْك مِن تلك العلل، وانظر أين الخلل، فالمؤمن يمرضُ أو يصاب، فيدري فيمَ ربط وفيمَ أُرسِل، فيقوم بعد الوقوعِ ليُعِيد الخطة من جديد، ويتلافى أسباب الفشل، ثم يمضي وقد تعلَّم من كبوته، وربما تكون أسَّ نجاحه ومبدأ فلاحه، وربما صحَّت الأجسام بالعلل، والمؤمن لا يؤتَى من جُحْر مرتين، فربما أثناء الوقوع تتراءى له سبيلٌ للنجاح لم تكن من قبل على بالٍ.
إنه الأمل جنين يتحرك بين أحشاء الألم ينمو، وغدًا يرى النور!
فَارْعَه، وإياك إياك من وَأْده، لتحيا بحياتِه أفراد، بل تبعث به أمم وشعوب، وبشِّروا دومًا بغدٍ يُولد لنا فيه أمل ولادةً طبيعية، وإن تعسر فقيصرية، ولكنه حتمًا سيُولَد، وحتمًا كلنا سنرعاه، وإلا فقدناه، وكيف نحيا لو فقدناه؟