.
علم
السيرة النبوية له مكانته المهمة بين العلوم الإسلامية, فالسيرة تجسيد حي لأحكام الإسلام وآدابه، لأنها سيرة نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، التي تشتمل على الحديث عن تفاصيل حياته في المرحلة المكية والمدنية، بل ومنذ ولادته إلى يوم وفاته ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولها معانٍ متعددة، فقد تكون مرادفة لمعنى السُّنة عند علماء الحديث، وهو ما أضيف إِلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، وأما علماء التاريخ فالسيرة عندهم هي أخباره ومغازيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهذه المعاني ليست متضادة إِنما هي متنوعة ومتكاملة .
فالسيرة
النبوية هي دراسة حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبيان أخلاقه وصفاته، وخصائصه ودلائل نبوته، وأحوال عصره وأخبار أصحابه، وهي لا تتناول سيرة رجل عادي، بل إنها دراسة لتاريخ وحياة أعظم مخلوق وُجد على ظهر هذه الأرض منذ آدم وإلى يوم القيامة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ، الذي قال عنه ربه ـ عز وجل ـ: {
وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم الآية: 4)، ووصفته زوجته أم المؤمنين
عائشة ـ رضي الله عنها ـ فقالت: (
كان خلقه القرآن ) رواه
مسلم .
ولأهمية سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حياة الصحابة وسلفنا الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ فإنهم كانوا يعلمونها لأولادهم، فكان
زين العابدين بن علي بن الحسين يقول: " كنا نُعلَّم مغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما نُعلَّم السورة من القرآن " .
وقال
محمد بن سعد بن أبي وقاص: " كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسراياه، ويقول: يا بَنِّي هذا شرف آباءكم أو هذه مآثر آباءكم فلا تضيعوها " .
وقال
ابن الجوزي: " رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يُمزج بالرقائق والنظر في سيرة السلف الصالح، وأصلح سيرة سيرة نبينا - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ـ " .
ويقول الحافظ
الخطيب البغدادي: " تتعلق بمغازي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحكام كثيرة، فيجب كتابتها والمحافظة عليها " .
والسيرة
النبوية في نطاقها الزماني: بدأت من لحظة ولادته - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل، وما صاحبها ـ قبلها وبعدها ـ من أحداث وإرهاصات وبشارات، وحتى وفاته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة النبوية، وجملتها ثلاث وستون سنة قمرية والموافقة في التاريخ الميلادي من عام 571 م : 632 م .
وأما النطاق المكاني للسيرة النبوية: فقد بُعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة بلد الله الحرام، التي وُلِدَ ونشأ فيها، ثم هاجر إِلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشرة سنة من النبوة والبعثة، وفيها أسس بناء دولة الإِسلام، وابتدأ الجهاد حتى فتح مكة وما حولها، ثم أتته الوفود مُسْلِمة ومستسلمة في العام التاسع من الهجرة، ولم ينتقل إِلى الرفيق الأعلى حتى كانت الجزيرة العربية كلها خاضعة للإِسلام .
فالجزيرة العربية كانت النطاق المكاني للسيرة
النبوية في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - حدثت ردة في الأطراف والقرى، ولكن تمكن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ بقيادة خليفته الأول
أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - من قمع المرتدين وإعادتهم إِلى الهدى ودين الحق في أقل من عام واحد، ثم انطلقوا بالدعوة والفتوحات إِلى أهل الأرض شرقًا وغربًا، كما هو معلوم من سير الفتوحات الإِسلامية بعد ذلك .
وقد تبين من خلال سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه رسول الله إلى الناس أجمعين، وأن رسالته عالمية لكل الأجناس البشرية، غير محدودة بعصر ولا جنس ولا مكان، فهي تخاطب كل الأمم والأجناس والشعوب، وهي هداية ورحمة الله للبشرية جمعاء، وقد قال الله تعالى: {
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(الأنبياء الآية: 107)، وقال: {
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا }(الأعراف من الآية: 158)، ومن ثم أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رُسُلَه وبعث كتبه في أقطار الأرض وملوكها يدعوهم إلى الإسلام، فأرسل إلى المقوقس حاكم مصر، وهرقل عظيم الروم، وكسرى ملك فارس، و
النجاشي ملك الحبشة،
والمنذر بن ساوى أمير البحرين،وهوذة الحنفي أمير اليمامة، وملِكا عمان، والحارث الحميري حاكم اليمن، والحارث الغساني ملك تخوم الشام وغيرهم، وفي ذلك إظهار وإعلان لعالمية الإسلام زمانا ومكانا، وأن شريعته ناسخة لجميع شرائع الرسل، فلا يقبل الله من أحد غير دينه وشريعته، قال الله تعالى: {
اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا }(المائدة من الآية : 3 )، وقال: {
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ }(آل عمران الآية: 85 )، وقال: {
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامُ }(آل عمران: من الآية: 19 ) .
قال
ابن كثير: " والآيات في هذا كثيرة، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تُحْصَر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه رسول الله إلى الناس كلهم " .
إن التأمل والسير في رياض وظلال
السيرة النبوية زاد ومنهج للإنسانية عامة وللمسلمين خاصة، وذلك لأن سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليست مجرد حوادث تاريخية تؤخذ منها الدروس فحسب، وإِنما هي فوق هذا كله تطبيق عملي للوحي الذي يُقتدى به، وهي منهج واضح يُهْتَدَى بهداه، وصراط مستقيم يُسلك ويُتبع، وميزان توزن به الأعمال والمواقف، والآراء والأفكار، لأنها التجسيد الحي لتعاليم الإِسلام كما أرادها الله تعالى أن تُطبق في عالم الواقع، وكل من يبحث عن مثل أعلى في موقف من المواقف، وناحية من نواحي الحياة فإنه سيجد له مثالا في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسيرته، قال الله تعالى: {
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا البَلَاغُ المُبِينُ }(النور من الآية:54}، وقال: {
وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا }(الحشر من الآية : 7) .
فمن أهم أسباب اهتمام علماء المسلمين بالسيرة
النبوية هو استنباط الدروس والعبر للاستفادة منها في واقعنا، وإبراز مناط الأسوة والقدوة للتأسي والاقتداء به، ومن ثم ستظل سيرته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين العالمين منارة هدى وسُمُو، وطريق سعادة وأمان، ومصدر إشعاعٍ وخير، قال الله تعالى: {
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا }(الأحزاب الآية:21} .