كان صلى الله عليه وسلم {يَتَغَافَلُ عَمَّا لا يَشْتَهِي}،
إذا رأى في المجلس منظراً لا يُعجبه يتغافل عنه ويتظاهر أنه لا يراه،
وإذا سمع كلاماً لا يُعجبه يتظاهر بأنه لا يسمعه،
وهذامن جميل أدبه صلوات ربي وتسليماته عليه،
وكما قلنا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى لا يلتفت إلى وراءه،
وقد علم أصحابه رضوان الله تبارك عنهم ذلك من حضرته
فكانوا يأمنونه وهم يمشون وراءه، لأنهم يعلمون أنه لا يلتفت.
وهذا الأمر نحن أحوج إليه في بيوتنا، مَن وقف على كل صغيرة وكبيرة
مع صغاره سيُصاب بما لا يُعد ولا يُحد من الأمراض العصرية،
وأولها التوترات العصبية والأمراض النفسية،
ومن وقف مع كل صغيرة وكبيرة مع زوجه فلن تستقيم لهم الحياة،
وسيتحول الأمر بينهم إلى شد وجذب
وخلافات لا تنتهي، فلا بد للإنسان أن يغض طرفه،
ويتغافل عما لا يشتهيه إن كان مع زوجه، أو كان مع أبناءه،
شرط ذلك ألا يكون ذلك في معصية لله،
لكن ما نتكلم عنه الأمور العادية التي لا تسبب للإنسان سخط الله،
ولا غضب الله، ولا مخالفة شرع الله.
فكان صلى الله عليه وسلم يتغافل عما لا يشتهي بالحكمة
وبالكياسة النبوية، ولا ينجح رجل في بيته،
ولا قائد في عمله إلا إذا استخدم هذه الكياسة النبوية
وتغافل عما لا يشتهي، لكن أي قائد يريد أن يحاسب على النقير
والقطمير فإنه سيجلب على
نفسه مشاكل لا عدَّ لها ولا حدَّ لها،
لكن لا بد له أن يتغافل عما لا يشتهي، وهذا خُلُق إلهي
: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ}
فاطر45
يترك الله العباد حتى يثوبوا إلى الرشاد ويرجعوا عن الكفر والعناد،
ويتَّبعوا هَدْى خير العباد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{وَلا يُؤْيِسُ مِنْهُ رَاجِيهِ وَلا يُخَيَّبُ فِيهِ}
، أي شخص يرتجي منه أمر لا ييئس منه، وهذا الأمر في زمانه
وعصره وإلى يوم القيامة وفي الآخرة وفي الجنة إن شاء الله:
ما سامني الدهر ضيماً واستجرت به إلا وجدت جواراً منه لم يُضم
ومن تكن برسول الله نُصرتـه إن تلقه الأُسد في آجامها تجم
لا يوجد أحد ينادي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويُخيب رجاه، لو ناديت عليه في شدة أو ملمة وقلت يا رسول الله،
فستجد الفرج من عند الله،
فهو صلى الله عليه وسلم لا يخيب رجاء أحد أبداً،
يقول بعض الأحباب:
من لازم الأعتاب ما خاب، والذي يلازم باب الله
فدوماً مفتوح له الباب،
أنا لا أقول كما يقول البعض:
من داوم القرع على الباب فُتح له، لكن أقول:
ومتى سُدَّ هذا الباب حتى يُفتح؟ الباب مفتوح أبداً:
وأنت باب الله أي امريء أتاه من غيرك لا يدخل
هو باب الله فلا يُخيب راجيه في الدنيا ولا في الآخرة
ولا في الجنة، لأنه صلى الله عليه وسلم:
{حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة128
ما حدود حريص عليكم؟
{قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الْمِرَاءِ، وَالإِكْثَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ}
، ما الذي يجب أن نتركه في المجالس؟
المراء هو الجدال، وقد هذبنا وأدبنا صلى الله عليه وسلم
وقال لنا صلى الله عليه وسلم:
{أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا}
وقال في الجدال الذي نشأ في عصرنا:
{مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلا أُوتُوا الْجَدَلَ}
ولذلك يقول الإمام أبو العزائم رضي الله عنه في أحوال الصالحين:
"ومدامهم يُجلى بغير جدال"
لا يوجد جدال باللسان وأيضاً لا يوجد تنازع بالقلب والجنان:
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}
النساء65
{قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الْمِرَاءِ، وَالإِكْثَارِ}،
كان صلى الله عليه وسلم نزْر الكلام، وهكذا الصالحين،
وحبَّب في ذلك صلى الله عليه وسلم وقال:
{إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا فِي الدُّنْيَا، وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ،
فَاقْتَرِبُوا مِنْهُ فَإِنَّهُ يُلْقِي الْحِكْمَةَ}
المؤمن قليل الكلام، لا يتكلم إلا نزراً إذا كان هناك ضرورة،
وفي رواية أخرى:
{قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الْمِرَاءِ وَالإِكْبَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ}
والإكبار يعني الكِبر، وقد قال صلى الله وسلم:
{لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ}
وقال الإمام أبو العزائم رضي الله عنه:
ألا من يكن في قلبه بعض ذرة من الكِبر والأحقاد ما هو ذائق
الذي يحرم الإنسان من الذوق مرض الكِبر والعياذ بالله.
{قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلاثٍ: الْمِرَاءِ، وَالإِكْثَارِ، وَمَا لا يَعْنِيهِ}
قال صلى الله عليه وسلم:
{مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ}
هذا حسن الإسلام، فما بالك بحُسن الإيمان؟
وما بالك بحُسن الإحسان؟
من حُسن الإيمان شغله بالكلية بخالقه وباريه،
ومن حُسن الإحسان عدم الاشتغال بالدنيا والآخرة عن خالقه وباريه.
{وَتَرَكَ النَّاسَ مِنْ ثَلاثٍ: كَانَ لا يَذُمُّ أَحَدًا}
، دائماً
المؤمن يرى حسنات إخوانه وسيئات نفسه،
فينظر بعين الرضا:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السُخط تُبدي المساويا
مرَّ المسيح ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة
وأتم السلام ومعه الحواريين ب*** ميت تخرج منه رائحة منتنة،
فقالوا:
ما أنتن رائحته،
فقال المسيح: ما أجمل بياض أسنانه!
هم ينظروا إلى شر ما فيه، وهو
ينظر إلى خير ما فيه،
وهكذا نظرة الأخ لأخيه،
ينظر في الأخ إلى خير ما فيه،
ويحاول إذا كان فيه غير ذلك أن يُقومه بلين ورحمة ومودة
وبطريقة لا تؤذي أخيه،
وهذا المنهج الذي اختاره الحبيب الأعظم صلوات ربي وتسليماته عليه.
{وَلا يَعِيبُهُ}،
لا يعيب أحداً من الخلق أياً كان،
لأن الذي يعيب على الصنعة فهو بذلك يعيب على الصانع،
والإنسان لم يصنع نفسه،
فإذا عبت على القصير فإنك عبت على المُصور:
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} التغابن3
وإذا عبت على النعم فقد عبت على الواهب عز وجل،
ولكن عب على نفسك:
{طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ}
وهل
المؤمن انتهى من
جهاد نفسه حتى
ينظر إلى عيب غيره؟
لا شأن للمؤمن بهذه الأمور.