خُلق نبيل، مَن عُرِف به عَظُمَ قدرُه، وعلَت مكانته،
يستوجب صاحبه من الناس الثناء، وتَلهج له القلوبُ بالدعاء؛
ذلك لأنه بالحياء يصون إنسانيَّته ويحقِّق عبوديته.
مَن ارتدى ثوب الحياء تجنَّب البغي والعدوان، وتحاشى الفسوقَ والعِصيان
إنه قيمة الإنسان وأعلى درجات الإيمان، وأرفع مقامات الإحسان.
هو حِلية الكمال، وحُلة الجمال، ومقياس الاحترام والإجلال ..
إنه الفطرة الذكية، والضمير الحي، والقلب الواعي.
إنه مِفتاح كل الطاعات والقُربات، ومِغلاق لكل الشرور والآفات.
واستجلاب الحياء بكل شُعَبِه وأنواعه مهمٌّ للغاية،وأولها:
الحياء من الله بدوام مراقبته واستحضار نِعَمه، والاعتراف بالتقصير في حقه
وترك التضجُّر عند البلاء، متناسيًا إحسانَه القديم إليه، وإنعامه الجزيل عليه،
وبذل الجهد في خدمته وطاعته، وعدم الاستعانة بنعمه على معصيته،
فلا يراه حيث نهاه، ولا يَفقده حيث أمره:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [الملك: 12]
وما يغني عن المرء حياؤه من العالمين ظاهرًا، في حين أنه إذا خلا بمحارم الله
انتهكها، أوَ يستحيي من ربه من يُظهر له وحدَه القبيح في حين يظهر للناس الحسن،
فيجعل الله عز وجل أهونَ ناظر إليه؟!
حياؤه من الناس بإقراره بأنه واحدٌ منهم، يسَعه ما يسعهم، ويؤذيه ما يؤذيهم،
ويُسعده ما يسعدهم، فبعضهم لبعض خدامٌ وأعوان،
يعرِف فضلَهم ويُنزلهم منازلهم، ويستر عيوبَه عنهم.
وحياؤه من نفسه باعترافه بضآلة معارفه مهما زادتْ، واستحقاره لعلمه مهما عظُم،
ومعرفته بمحدوديَّته مهما تعاظَم، وكونه شيئًا صغيرًا ضمن دائرة الوجود اللامتناهية،
فلا كبر مُهلك ولا صَلَف مَقيت.
إن الحياء ليس بدعًا من الصفات، بل هو فطرة نقية تُغرَس في النفس
الإنسانية منذ نشأتها، ثم البيئة حولها إما تُنميها أو تَمحوها.
ولعل ما يدعم هذا هو حياء أبي سفيان أمام هرقل ملك الروم في إخباره عن الرسول
صلى الله عليه وسلم خشية أن يُؤثَر عليه كذبٌ يَشينه، فصَدَقه القول مرغمًا!
فحين يُخلَع ثوبُ الحياء لا يبقى من الإنسانية إلا صورتها الشاحبة،
فذهابه ذهابُ الخير أجمع، وهو دليل على موت القلب ولا بدَّ، فلا يُؤبه بحقوقٍ،
ولا تُرعى حُرمات، فهو لعمري موت الدنيا وشقاء الآخرة.
وحين أذكر الحياء هنا، فإنما أقصِد ما يَمنع صاحبَه عن ارتكاب المحرمات
ويُبعده عن الجرائم والمنكرات، ويُجنبه المعاصي والموبقات.
حياء يحفَظ النفس أن تغشى الرذائلَ، لا الحياء الذي يمنع صاحبه من المطالبة بحق
أو إخلال بحقوق مَن يعول، أو الذب عن عِرض مسلم، أو يعوق عن طلب العلم النافع
أو الذي يحمل صاحبَه على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالحياء المانع للخير أو الجالب للضر، هو العجز والخوَر بعينه، والذِّلة والمهانة بذاتها،
فهو ليس حياءً، بل إنه خجلٌ مذموم وجبنٌ مرذول.
وحين يُنزَع الحياء فلا تَسَل عن اجتماع الشرور، فحين يتعرَّى المرء عن الحياء ويَجدُب منه القلب
فلا غروَ إن غرِق في دركات الوقاحة، فتراه يرتكبُ قبائحَ الأفعال، وديدنُه سيِّئ الأقوال.
في غياب الحياء يرتشي الموظف ويغش الطالب، ويخون المسؤول، ويَستبيح
الجار حقَّ جاره، ويعقُّ الابن والديه، ويضيع الأب أسرته.
تتبرج النساء ويتخنَّث الشباب وتُهدَر الأخلاق، وتُبخَس الحقوق، وتَسود القطيعة والعقوق
وتُخان الأمانة، ويُنقَض العهد، ولا يُوفَّى بالوعد، وتُرتَكب المنكرات، وتُكشَف العورات
وتعم المصائب والبليَّات، ويُتجنَّب الجميل ويُؤثَر القبيح.
وإنَّ أمةً تَنزِعُ عنها ثوبَ الحياء، فإنما تستدرُّ سحائبَ الشقاء، وتستنزل أسباب البلاء.
حافِظ على رداء حيائك أن يَنثلِمَ، وعلى مُروءتك أن تَنخرِمَ، وعلى دينك أن يَنصرِمَ.
وانْأَ بنفسك عن سفائف الأمور ومَرذول الأخلاق والعادات، فلا تَضَعْها موضع
الشك واللوم والامتهان والت****، فنفسُك أمانة لديك فأحسِن خلاصها
وجاهِد نفسك على هذا الخلق الحميد، واصحَب الصالحين واقرأ سيرة سيد
المرسلين، فهو خلقٌ يُكتسَب بالقدوة والمجاهدة.
وإذا كان الحياء مطلقًا حسنٌ، فهو في النساء أحسنُ، فالحياء في المرأة
أجملُ صفاتها وأبهى سماتها، هو سورٌ منيع يَمنعها من التردِّي في الظلام في هاوية
سحيقة، وسياج يصون كرامتها عن العيون الماجنة والأيادي المجرمة.
ولقد أتى على المسلمين حينٌ من الدهر كانت المرأة مصانة بحجابها، أما اليوم
فقد نجح الإعلام المضلل والقنوات المسِفَّة في نزع حيائها، فخرَجت إلى قارعة
الطريق بكامل زينتها، تسير كالبلهاء خلف السراب لا تكاد تَبين.
لقد فرض الله عليها الحجاب إكرامًا واحترامًا، وسلامةً لها من دواعي الفتنة
وحفظًا لعرضها أن يمسَّ، وحمايةً للمجتمع كله من الفساد والانحطاط، جعلها
الإسلام جوهرة مصانة، لا مبتذلة مهانة.
لقد نُسِفت الأخلاق بما انكشَف من العورات، وبما استُحِلَّ مِن الحُرمات
فلا حياء من خالق ولا خجلٍ من مخلوق.
اعتدنا المنكر من طول ما ألِفناه، ثم نطلُب من الله رفعَ غلاء الأسعار، وتوسيع
الأرزاق والأقوات، نعصيه ثم نسأله رزقَه، إن هذا لشيء عجيبٌ.