بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام ؛ في أواخر
سورة البقرة آيات دقيقة، وكأن هذه الآيات تلخص السورة بأكملها، بل كأن هذه الآيات تعطينا الطريق العملي لفهم هذه السورة، يقول الله عز وجل في
الآية الرابعة والثمانين بعد المئتين:﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾
(سورة البقرة: الآية: 284)
أولاً: هذه اللام... لله... هذه لام الملكية.
فأنتَ مثلاً تقول: القلم لي، والبيت لي، والمركبة لي، فهذه اللام لام الملكية
فلله ما في السموات وما في الأرض، كلمة السموات والأرض يقابلها الكون، والكون ما سوى الله، والله واجب الوجود، وما سواه ممكن الوجود، وما سواه هو الكون، والتعبير القرآني للكون، السموات والأرض.﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
أي الكون كله ملك لله عز وجل.
ما معنى أن يكون الله مالك للكون ؟ …
أنت قد تملك بيتاً ولا تنتفع به، قد أجرته في الخمسينات بمئة ليرة في الشهر، وثمنه الآن ثلاثون مليونًا، قد تملك بيتاً ولا تنتفع به، وقد تنتفع به ولا تملكه فأنت مستأجر، وقد تملكه وتنتفع به، و لكن مصيره ليس إليك، فمشروع تنظيم مِن قِبل المحافظة يأتي على البيت، فملكية الإنسان دائماً غير كاملة.
فهو إما أنه يملك الرقبة ولا يملك المنفعة، أو أنه يملك المنفعة ولا يملك الرقبة، أو أنه يملك المنفعة والرقبة ولا يملك المصير.
لكن إذا كان الله مالكاً، فالله سبحانه وتعالى يملك الشيء، ويملك التصرف فيه، ويملك مصيره، أجل يملك الشيء ويملك التصرف فيه ويملك مصيره.
﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾
(
سورة الأعراف: الآية: 54 )
أمره نافذ في خلقه.
قد يصنع المعملُ طائرة ويبيعوها لدولة ما، فأصبحت الطائرةُ ملك تلك الدولة، لكن الله عز وجل له الخلق والأمر، لذلك:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
هذا يؤكده قوله تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ﴾
(
سورة آل عمران: الآية: 26 )
شخصًا عنده معمل، وبيته في حيِّ خور شيد، ركب مركبته واتجه إلى البيت، فنسي موقعَ البيت !!! قضى نصف ساعة أو أكثر يبحث عن بيته، أُصيب بفقد جزئيٍّ للذاكرة، لكنه عرف بيت ابنه الذي بالجسر، فذهب إلى ابنه وقال له: يا بني أين بيتي؟.
قد يعني أنَّ أيَّ شيء يُملك فالله مالكه، فأنت هل تملك ذاكرتك مثلاً ؟
أعرف ينسى إنسان أولاده، أحد الأشخاص أعرفه، وهو صيدلي في حيِّ المهاجرين، جاء ابنه من أمريكا، فقال له من أنت ؟ أفتملك ذاكرتك ؟ هل تملك أن تعيش بعد ساعة، يقال: سكت دماغية، أتملك مزرعتك ؟ بكون ثمنُ محصولها ذات خمسمئة ألف.
﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) ﴾
(
سورة القلم: الآية: 19 )
موجة صقيع تستمر عشر ثوانٍ تُتلف المحصول كله، أو لفحة حر تتلف المحصول كله، أو رياح عاتية أقبلتْ رياح عاتية قبل حين، قلعت حوالي خمسمئة بيت بلاستيكي من جذورها، تلاشى البيت كله، وتلاشى المحصول طبعاً، فماذا نملك نحن، بناء بالقاهرة أربعة عشر طابقًا، فيه بنوك، وفيه مؤسسات، وفيه بيوت فخمه، طبعاً ؛ بيت لإنسان غني فيه الآلات الكهربائية، والمكيفات البرادات، آلات التسجيل...إلخ.
خلال ثلاث وأربعين ثانية، أصبح هذا البناء ركاماً، خمس درجات على مقياس ريختر تصير تحت خيمة تُؤويك، كان عندك بيت مساحته أربعمئة متر، تزينه ديكورات، وفرشه وفير، بثلاث وأربعين ثانية، غدوت تحت الخيمة ثاويًا، هناك ناس ينزحون من بلادهم، قد يقال: مئة ألف نازح، فنحن لا نملك إلا رحمة الله عز وجل.
قال تعالى:
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ﴾
(
سورة آل عمران: الآية: 26 )
هناك عطاء مادي... وهناك عطاء معنوي... العطاء المادي، بيت، أرض مركبة، تجارة، أموال... والعطاء المعنوي مكانة، عزة، كرامة، أو إهانة، أو فضيحة، أو ذل.
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾
هذا تمهيد للآية الرابعة والثمانين بعد المئتين في أواخر
سورة البقرة، قال تعالى:﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
وأنت على الأرض تشملك
الآية الكريمة، أنت مِن مُلك الله، ثم قال:
﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
(سورة البقرة: الآية: 284)
إذا كان الإنسان مثلا مصابٌ بمرض نفسي، كأنْ يكون فيه كبر، أو إشراك بالله، وفيه آفةُ الاستعلاء، وتأكيد للذات، أو عنده غرور، فهذه الأمراض إن أبديتها لله أو أخفيتها، لابد من أن يحاسبك عليها.
أما الطبيب إن لم تأته إلى عيادته، وتقول له: إنني لا أنام الليل من ألم المعدة فإنّه لا يعالجك، الطبيب البشري إن لم تأته، وإن لم تخبره بآلامك لا يعالجك، لكن الله عز وجل، لأنه يعلم، ولأنه مالك، ولأنه رحيم.
يعلم، ومالك، ورحيم، سواء أعرضت عليه مشكلتك، أم تجاهلتها يحاسبك بها.﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾
إخواننا الكرام ؛ أدق ما في الآية:
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
والله الذي لا إله إلا هو، ملخص، ملخص، الملخص، إما أن تذهب إليه طواعيةً، إما أن تنتبه لأمراضك النفسية طواعيةً، وإما أن تقبل عليه مبادرةً منك، وإما أن يرغمك على أن تأتيه قصراً.
﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
يعني إنْ أصابك مرض، فقد يقول لك الطبيب: لدينا حبوب، أو عملية جراحية، وإمَّا لو امتنعت عن هذه الآكلات، وأخذت هذه المقويات تشفى، فأنت بين خيارين ؛ إما أن تشفى بالحسنى، وإما أن تشفى بعد مصيبة ؛ فالآية دقيقة …
يعني المرض النفسي إن أظهرته أو أخفيته، إن عرضته أو سترته، إن أبديته أو أسررته، إن ذهبت إلى الطبيب أو لم تذهب إليه، فالطبيب يعلم، ورحيم، وعليم وقدير، وأنت بملكه، لأنه رحيم، ولأنه رب العالمين، ولأنه جاء بك إلى الدنيا ليؤهِّلك للآخرة فلا تعصِهِ.
فلذلك أمراضك النفسية مكشوفة عنده، إنْ تكلمتَ أو سكتَّ سيان، و المعالجة تكون بإحدى طريقين.
الطريق الأول: أن تأتيه تائباً، وأن تقبل عليه.
بهذا الاتصال تشفى من أمراضك، أمّا إذا أبيت أن تأتيه طائعاً، ولم تندم على ما تفعل، فالله عنده مليون، مليون، مليون، مليون وسيلة مما يرغمك أنْ تأتيَ إليه ركضًا، مليون وسيلة، بدءاً من صحتك، إلى زوجتك، إلى أولادك، إلى عملك، إلى تجارتك، وأنت مسافر، وأنت في البحر، وأنت بالجو، وأنت بالبر، وأنت في بيتك، وأنت بغرفتك، حيثما كنت فلن تعجزه.
حدّثني أحدُهم ؛ قال لي: أنا أستاذ كنت في أوربا، ليس مِن معصية إلاّ قارفتُها،عدا القتل، فما قتلت أحداً، قال: ثم جئت إلى الشام، ونقلت باريس إلى دمشق، فكل المعاصي ؛ السهرات في النوادي، والخمور، و النساء، لا زلتُ أقارفها، وفجأةً، أنا في مقتبل الحياة، وأحمل شهادة دكتوراه بالكمبيوتر، وفجأةً صار كلُّ شيء يتحرك أمامي مضطربًا، أعوذ بالله، فهو يمشي ويقع، واللهِ عشر محاولات لأمسك الكأسَ فما أقدر، يعني أصابه مرضُ اسمُه فقدُ التوافق الحركي، وأصبح لديه خلل في كهرباء الدماغ، انعكاس واضطراب بالرؤية، واختلال بالمشي، وعُرضتُ هنا على ستة وثلاثين طبيبًا بالشام، فما استفدت، فذهب إلى فرنسا حيث تعلَّم وتخرَّج، وأُدخِل إلى أعظم مستشفى، وجاء الطبيب بالطائرة، وبحثوا عن مرضي، وطبعاً سرتُ على بساط إلكتروني، وانطبعتْ حركاتي على شاشة، فأول كلمة قالها لي الطبيب: مرضك مرض يندر وجوده بالعالم، نسبته واحد من ثلاثة عشر مليون إنسان، كل ثلاثة عشر مليون إنسان يصاب به واحد، ثم قال لي: أنا فداء سوريا كلها، وبلغته إدارة المستشفى أنّ إقامته في فرنسا، وذهابه و إيّابه كل ستة أشهر نفقةً على حساب فرنسا، لا لأنه مكرم بل، لأنهم جعلوا منه حقل تجارب، إنه مرض نادر، ولأجل أنْ يتعلموا فيه اعتبروه ضيفًا، ذهاباً، وإياباً، وإقامةً، وبعد ستة أشهر قال لي الطبيب المعالِج بالحرف ما يلي: أنا أعلمُ طبيبٍ بمرضك في العالم كله، ولا فخر، وللأسف ليس لك عندنا دواء، ارجع إلى بلدك وانتظر أجلك، فرجع إلى الشام، فاعتبر يا أخي المؤمن حيث قال:
" لم تبق مصيبةٌ إلاّ اقترفتُها".
جاء إلى الجامع يومًا وحضر درسًا، ولعله سُرَّ، فقال يا رب: إذا شفيتني سأصلي، فهو ما صلى في حياته ثمّ حضر درسًا ثانيًا، ولعلّ الله ألهمني كلمة فقلت: أتشترط على الله ؟ أتجرِّب الله عز وجل ؟ فلا شرط، و لا تجربة مع الله، ولا تجرب الله عز وجل، لا تشارط ولا تجرب.
سبحان الله، ثم قال: يا ربي مِن الآن أبدأ الصلاة، وفي البيت صلى أول ركعتين في حياته.
وفي ثالثِ يومٍ، ثبتت الصورة، وقام وصرخ راح فرحًا بالشفاء.
إنّ الصورة ثبتت، وما بقي لديه ارتجاج، وأمسك الكأس من أول محاولة، وبعد ثلاثة أيام عاد صحيحا معافى، وكان الصلح مع الله، ولزم دروس العلم، وتاب إلى الله توبة نصوحًا.
إخواننا الكرام ؛ إمّا أن تأتي طائعًا، وإمّا أنْ يأتي بك ركضًا، وعنده مليون دواء، أحد الأدوية يجعلك لا تنام الليل خوفاً، وأحد الأدوية يوحي إليك أنْ تقول: مستعد لأنْ أبيع أملاكي على أنْ أُشفى.
قلت لكم بالأمس: شخص يحمل دكتوراه، وصل لأعلى منصب بوزارة الصناعة، فَقَد بصره، وبيته بالمالكي، وله سيارة، وزوجة فرنسية، يعيش في بحبوحة، ومكانة، وعز.
زاره صديق لي فأخبرني أنه قال للطبيب: واللهِ أتمنى أن أجلس على الرصيف أتسول، ولا أملك من حطام الدنيا إلا هذا المعطف، وأن يرد اللهُ لي بصري.
إخواننا الكرام:
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾
أنت ملكه، وهو رحيم، وهو رب كريم، وحكيم، وخلقك للجنة، فإذاً أنت بين خيارين.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾
فالأمر سيان.
في الجسم أمراض إنْ أظهرتها أو أخفيتها، إن أبديتها أو أسررتها.
﴿يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾
أنت بين طريقين ؛ إما طريق الحمية والحبوب، أو عملية جراحية، وكلاهما على الله سهل.
﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾
للإقبال عليه.
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
للإعراض عنه، يبعث له مشكلة.
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾
على هذه قدير، وعلى تلك قدير.
الطريق الأول: أولى وأجمل ؛ أن تأتيه طائعاً، والأمر في متناولك، صحتك طيبة سليمة، وبيتك منتظم، ودخلك جيد، زوجتك كاملة، أولادك ملاح، وأنت بهذه الحالة الطيبة صلِّ وتُبْ وغض بصرك، وحرر دخلك واضبط جوارحك، واضبط سمعك وبصرك، وأنت سليم صحيح الجسم، وإلاّ إذا انحرفت فالله عز وجل يعرف كيف يداويك.
﴿وَإِنْ تُبْدُوا﴾
هذه
الآية دقيقة، هذه ملخص
سورة البقرة كلها.
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾
الطريق السلمي أولاً، بأنْ تأتيه طائعاً: أنا يا رب تبتُ إليك، وأريد رضاك.
﴿وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾
إذا غفلت عنه، فعنده أساليب ترجعك قهرًا.
أمَّا
﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)﴾
على هذه قدير، وعلى العملية الجراحية قدير، وعلى إعطائك برنامج حمية مع تناول حبوب قدير، والأولى أهون، فاحذروا يا أولي الألباب.
والحمد لله رب العالمين