بينما يراها «المحزون» وكأنها تنوح وتدور حول نفسها لا تدري ماذا تفعل؟ يصور هذا الموقف شاعر
المعاناة والألم الشاعر «حمد الحجي» من محافظة «مرات» فيقول:
تغني على الدوح الوريق حمامة
............. فيحسبه المحزون لحن بكاء
وتبكي على الغصن الرطيب يظنها
........... حليف الهنا تشجي الورى بغناء
ألا إنما بشر الحياة تفاؤل
.............. تفاؤل تعش في زمرة السعداء
سطوح بيوت الطين احتوت على عش الحمام
واحتل الحمام منزلة كبيرة لدى الناس في الماضي، ولا يكاد يخلوا منه منزل، حيث يستلطفونه ويعملون على تربيته» ويألفونه
ولعل فئة الشباب هي الأكثر ولعاً في تربيته والاهتمام به على الإطلاق، فهو لديهم من الهوايات المحببة، حيث يقضون خلال اليوم
الساعات الطوال في العناية به وإطعامه وتنظيف مكانه، وكذلك التلذذ بطيرانه على شكل أسراب في أعلى سطوح المنازل، خاصةً في وقت «العصرية»
وقبيل الغروب، ولا يكاد يخلو منزل من القرية من هديل حمام، لذا كان من سكان المنازل الأصليين الذي يلقى العناية الفائقة
من جميع أفراده، ولا غرابة في ذلك، فالحمام منذ القدم من الطيور الأليفة والمحببة للكثير من الناس، وكثيراً ما يردد ذكره الشعراء في أشعارهم
فما الحكمة يا ترى في نيله تلك المنزلة دون غيره من الطيور؟، ولعل الجواب هو أن الحمام اختص بالعديد من المزايا التي أولها الحب
والإخلاص بين الذكر والأنثى، فقد لفت روح الألفة والمودة التي تسود أزواج الحمام نظر الإنسان، حتى أصحبت مراقبة الحمام
في حياته نوعاً من المتعة، فالحمام يعشق ويداعب ويغازل ويقبل، وهنا يعلمنا الحمام الوفاء والإخلاص والمحبة، ويظل الذكر والأنثى
شريكين طول حياتهما ولا يحصل بينهما طلاق، فهو في هذه الواجهة أسمى أخلاقاً من بعض الآدميين، كذلك التعاون بين الذكر والأنثى في بناء
العش والرقاد على البيض وحضانة الصغار وتغذيتها والوفاء بين كل من الزوجين، وهذا درس كبير للإنسان ليتفكر فيما يفعل مع زوجته
وأولاده وأهله، ولعل ثانيهما هي غريزة الحنين إلى الوطن تشابه حنين الانسان الدائم الى وطنه وهذه من الغرائز المشهورة عن الحمام
الزاجل بالذات، فإنه إذا استوطن في مكان صار يحن إليه ولا يغادره طوال حياته حتى لو أُبعد لمسافات كبيرة جداًّ، ومن منا لا يحب وطنه.
(
الحياة قديماً كانت لا تخلو من علاقة الإنسان بالحمام ولا يقطع على الشاب خلوته بالحمام إلاّ صوت والده أو والدته أو إخوته
لتناول طعام الغداء أو إجابة المؤذن لأداء الصلاة، والحقيقة أن تربية الحمام تستغرق جل وقت من يعمل على هذه الهواية
الشيقة والمحببة، فهي كما يسمونها «ولعة»، أي أن صاحبها يتولع فيها وتستغرق معظم وقته.
فنون التربية
بعد أن يستمر الشاب في تربية الحمام كهوايه فإنه مع مرور الوقت يصبح من أصحاب الخبرة والدراية بكل أمورها، فتراه يفرق بين الذكر والأنثى
وذلك بطريقة غريبة، وهي تذوق عينها، فإذا كانت مالحة مثلاً فهي ذكر، أما إذا كانت حلوة فهي أنثى، كما يستطيع أن «يولف» بين ذكر وأنثى
بل ويعرف الأنواع المميزة فيعزلها لوحدها ولا يخلطها مع غيرها، أما بالنسبة للأمراض فإنه يتعامل معها بدقة، فيستطيع معالجتها
والحفاظ عليها، على أن أمراض الحمام لم تكن منتشرة في ذلك الوقت، فنادراً ما يصيب الحمام أي مرض معد.
( يعود الحمام إلى مالكه بعد البيع وينتج عن ذلك «هوشة» و«مشادات» بين المُشتري والبائع )
ولم يكن الناس فيما مضى منذ أكثر من نصف قرن بحالة مادية جيدة تمكن الآباء من إعطاء أبنائهم مصروفاً يومياً كما هو
عليه الحال الآن، لذا كان من يربي الحمام يجد مصروفه من عمل يده، وذلك من خلال بيع حصيلته من الحمام عندما يتكاثر
وتضيق به «العشة»، فتراه يبيع على أبناء الجيران والحارة, وقد كان «جوز الحمام» يباع في تلك الفترة بريال وريال ونصف
وقد يصل الى ريالين، وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت، خاصةً إذا تجمع لديه من عدة بيعات فيمكن هذا المال صاحبه من التوجه
إلى «دكان القرية» وشراء ما لذ وطاب من المشروبات الغازية والبساكيت والحلويات والعديد من الألعاب ك»الكرة» و»الكيرم» وغيرها
والاستغناء عن طلب النقود من والده على الدوام والذي سيقابل بالرفض قطعاً، لذا كان من يربي الحمام
يعد من ميسوري الحال بين الشباب ومحل غبطة كثير منهم.
( «الكويتي» الأكثر توفراً و«القطيفي» جميل بمظهره و«القلاّب» و«الجذّاب» نوعان مشهوران )
قرى الرياض ضمّت الكثير من مُربي الحمام
حمام جذاب
كثيراً ما ترى بعض الشباب في شجار دائم والسبب هو الحمام، حيث يعود الحمام بعد بيعه إلى مالكه الأول، مما يجعل من اشتراه
يذهب إلى صاحبه الأول مطالباً إياه بإعادته، فيتم له ذلك ويحذره بأن لا يجعله حراً طليقاً بل يحبسه حتى يتعود على بيئته الجديدة
الأمر الذي قد يتكرر من خلاله المشهد، فتنشأ بينهم مشادات وعراك بسبب هذا الحمام، ولا تهدأ إلاّ بتدخل الكبار للإصلاح بينهم
وكحل لهذه المشكلة يعمد العديد من الناس الى قص أجنحة الحمام حتى لا يتمكن من الطيران لعدة أيام حتى يتعود على بيئته الجديدة
ومنهم من يربط أجنحته بشريط لاصق حتى لا يؤذيه القص ويبقيه لفترة حتى يتعود على مكانه الجديد ولا يغادره، ومنهم من يضع له السكر
في الماء ليعود إليه بعد طيرانه بحثاً عن هذا الماء الطيب المذاق، أما الحمام «الجذاب»، فهو أكثر ما يسبب العراك بين الشباب
حيث يجذب الإناث إليه لتعيش معه، مما يجعل أصحابها في عراك دائم مع صاحب الذكر الجذاب لاستعادة حماماتهم.
صناديق العشة وبداخلها الحمام
وتتعدد أنواع الحمام وتختلف جودة كل نوع عن الآخر، وكان الصنف الأكثر توفراً هو من نوع «الكويتي»، وهناك أنواع أخرى
أكثر جمالاً وقيمة وندرة ومنها «القطيفي»، وهو نسبة إلى منشأه وهو مدينة القطيف، ومن الأنواع الجيدة الحمام «القلاّب»
وهو الذي يتشقلب في طيرانه ويتقلب حيث يستمتع الهواة بمشاهدة طيرانه وهو يتقلب في الجو، وهناك نوع يطلق عليه «الجذاب»
وله من اسمه نصيب، فهو يجذب الحمام إلى «عشة» من يملكه، وهو من الذكور الذي يغري إناث الحمام فتتبعه وتبقى الى جواره
ولا تفارقه في وقوعه أو طيرانه. ومع تقدم الزمن عرف الناس أنواعاً جديدة تم استيرادها من خارج المملكة كالحمام
«المصري»، و»الفرنسي»، والتي كانت من ألذ أنواع الحمام طعماً عند الأكل وتمتاز أيضاً بحجمها الكبير والمميز.
الحمام يتجول داخل عشة السطح
خطر القطو
وعادةً «الحمام» يعيش بسلام، لكن هناك عدو متربص به على الدوام، حيث يتحين الفرصة لنسيان باب «العشة» مفتوحاً، فيعيث في الحمام
قتلاً وأكلاً، ألا وهو «القط» -القطو-، لذلك يحرص مربو الحمام على تأمين «عشته» من الفتحات التي تسمح بدخوله منها، وأحياناً قد يتمكن
القط من الدخول الى العشة وأكل ما لذ له وطاب من الحمام، والتلذذ بقتل البعض الآخر منها، لكنه بعد أن يشبع لا يتمكن من الخروج
فيبقى منتظراً مصيره على يد صاحب العشة الذي ما إن يراه إلاّ ويستشيط غضباً فيدخل عليه ومعه عصا غليظة، ثم يبادر إلى ضربه بها
إلى ان يتمكن من الهرب، أو أن يلقى حتفه على يديه من شدة الضرب، ومن أجل ذلك يحرص مربو الحمام على أن يضعوا بيوته عالية
حتى لا يتمكن هذا القط من الوصول اليها بسهولة، أما إذا كان الحمام في «الحوش» فيحرصون على رفع جداره واغلاق الباب جيداً
حتى لا يقفز القط الى الحوش، فالقط حيوان ذكي لذلك تجده يتردد في القفز الى الحوش حتى يتأكد بأنه يستطيع الخروج
بسهولة والهرب من صاحب الحمام، إلاّ أن الجوع أحياناً يعمي عينيه ويغلق عقله فيغامر بالقفز والظفر بالغنيمة
لكن مصيره غالباً أن يلقى العقاب الشديد على يد مربي الحمام.
يا ذا الحمام اللي سجع بلحون
.................. وش بك على عيني تبكيها
ذكرتني عصر مضى وفنون
................... قبلك دروب الغي ناسيها
مُحبون وعشّاق
ولازال الحمام منذ القدم يهيض المحبين والعشاق ويذكرهم بمن يهوون ويحبون، ولعل شكل الحمام الجميل يذكرهم بمحبوباتهم
فهذا «ابن حزم الأندلسي» الذي وصف بأنه أدق ما كتب العرب في دراسة الحب ومظاهره وأسبابه، قد أسمى كتابه ب(طوق الحمامة)
ويحتوي على مجموعة من أخبار وأشعار وقصص المحبين، كما يتناول عاطفة الحب الإنسانية على قاعدة تعتمد على شيء من التحليل
وقد ترجم الكتاب إلى العديد من اللغات العالمية واسم الكتاب كاملاً (طوق الحمامة في الألفة والأُلاف).
وورد ذكر الحمام بكثرة في قصائد الشعراء، خاصةً من أصحاب الغزل، وهناك عدد لا يحصى
من القصائد ذكر فيها ومن أجمل تلك القصائد قصيدة الشاعر «عبدالله بن لويحان» التي يقول فيها:
يا حمامة غريبة عند باب السلام
............. شفت رسم الهوى باطراف جنحانها
ذكرتني طواريق الهوى والغرام
.............. حارت الرجل بالمسعى على شانها
رسمها رسم نجد اللي سقاها الغمام
................. يا عرب كنّ زهر الورد باوجانها
ليتني طفت معها بالحرم والمقام
.................. أفهق الناس عنها وارفع أردانها
عقبها العين ما ذاقت لذيذ المنام
................. من يلوم العيون بشوف خلانها
أتنشد ولا جاني وكيد العلام
............. عسكر القلب عقبه مات سلطانها
كلمات وشعر
ومن القصائد الجميلة أيضاً قصيدة الشاعر «محمد بن لعبون» والتي من جمال
كلماتها يرددها مغنو السامري ويقول فيها:
ياذا الحمام اللي سجع بلحون
.................. وش بك على عيني تبكيها
ذكرتني عصر مضى وفنون
................... قبلك دروب الغي ناسيها
هلي يلوموني ولا يدرون
................. والنار تحرق رجل واطيها
لا تطري الفرقى على المحزون
.................. ما اداني الفرقى وطاريها
أربع بناجر في يد المزيون
.................. توّه ضحى العيد شاريها
عمره ثمان مع عشر مضمون
................ مشي الحمام الراعبي فيها
يا من يباصرني أنا مفتون
............... روحي ترى فيها الذي فيها
ومن الولع والحب أنا مجنون
................ يا ناس أنا وش حيلتي فيها
يامن يعاوني على الغليون
..................... والدلة الصفرا مراكيها
ستة بناجر وأربعة يزهون
................. وإن أقبلت فالنور غاشيها
أبو هيا طرب يشيل فنون
.................... ما ثمن الدنيا وطاريها
وقصيدة جميلة للشاعر «أحمد الناصر» يقول فيها:
يا حمامة غريبة
............. كل صوت تجيبه
من سمعها تصيبه