الخطبة الأولى
الحمد لله جامع الخلق ليوم لا ريب فيه، {
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} [
الحج:7]، اختص بعلم موعد
الساعة فقال: {
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُو} [الأعراف:187]. والصلاة والسلام على من بعثه الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، مبشرًا لمن آمن بالنعيم المقيم، ومنذرًا لمن كفر وعصى بالعذاب الأليم.
إخوة
الإيمان، إنَّ من
رحمة الله تعالى بعباده أن جعل بين يدي
الساعة أمارات وعلامات، أخبرنا بها رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون المسلم دائمًا وأبدًا على حذر، ويوقن بالرحيل من هذه
الدنيا والحساب والجزاء، فالموت يأتي بغتة، يقول ابن عمر رضي الله عنه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «
كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» [صحيح
البخاري:6416]، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح؛ وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء؛ وخذ من صحتك لمرضك؛ ومن حياتك لموتك. رواه البخاري ، فالمسلم يعيش بين الرجاء والخوف، ولا يركن إلى دار الغرور، فيتقي الله في كل أفعاله وأقواله.
والغاية –يا عباد الله- من إخفاء أمر
الساعة حث المؤمنين على مراقبة أعمالهم، ومحاسبة أنفسهم استعدادًا لذلك اليوم، فكلما ظهرت آية من الآيات راجع المؤمن نفسه وخشي أن يكون زمانه آخر الأزمان، ويتذكر الآخرة وانتهاء الدنيا وفنائها، ويتذكر فجأة مفارقته لهذه الدنيا بالموت.
ثم ما الذي يجعل الإنسان منا في مأمن وهو لا يدري؟ فقد يموت قبل ظهور العلامة القادمة، فالموت يأتي بغتة، والاستعداد ينبغي أن يكون دومًا وأبدًا مادمت تؤمن بأن هناك يومًا آخر سيُحاسَب فيه الخلائق؛ ليدفعك ذلك لمزيد من
التقوى والعمل الصالح.
ألا وإنَّ من علامات الإيمان الصادق الانقيادَ والطاعةَ المطلقة والتصديقَ الجازم بكل ما جاء به
النبي صلى الله عليه وسلم، حتى وإن عجزتْ العقول عن تصوره، فإن العيب والقصور في العقول، أما الخبر الصحيح الصريح فهو متحقق لا محالة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم.
عباد الله، كنا قد بدأنا في
الجمعة الماضية بسلسلة
علامات الساعة، وخلاصة ما ذكرناه: أن
أشراط الساعة وأماراتِها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: علامات ظهرت وانقضت، بَدَأَت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته؛ ومنها فتْح بيت المقدس، وطاعون (عمواس)، وظهور
الفتن، وظهور نار عظيمة في الحجاز.
والقسم الثاني: علامات ظهرت ولم تنقضِ بل لا تزال في زيادة، ومنها: إضاعة الأمانة، وقبضُ
العلم ورفعُه بقبض
العلماء، وكذلك كثرة شهادة الزور وكتمانُ شهادة الحق، واستفاضة المال، وظهور الكاسيات العاريات. ومنها تقارب الزمان ، ووقوع التناكر بين الناس، وكثرة القتل وتمني
الموت من شدة البلاء.
ونبدأ اليوم مع القسم الثالث: العلامات الكبرى التي يعقبها اليوم الموعود، وسيكون حديثنا اليوم عن علامة واحدة هي من أوائل هذه العلامات؛ كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة.
هذه العلامات الكبرى عند ظهور أول علامة فيها سينفرط عِقدُ بقية العلامات، كما في حديث أَنَس رضي الله عنه، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «
الأَمَارَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ بِسِلْكٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ، تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا» [مسند أحمد:12/7].
من هذه العلامات الكبرى: ما بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم من ظهور المهدي في آخر الزمان، بعد أن يسود
الظلم والجور، فيقيم بأمر الله العدل؛ ويمنع الظلم، يسقيه الله الغيث فتمطر السماء كثيرًا، وتؤتي الأرض أُكلها، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «
لا تَنْقَضِي الأَيَّامُ، وَلا يَذْهَبُ الدَّهْرُ حَتَّى يَمْلِكَ الْعَرَبَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، اسْمُهُ يُوَاطِئُ اسْمِي» [مسند أحمد:5/199]
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «
يَخْرُجُ فِي آخِرِ أُمَّتِي الْمَهْدِيُّ، يَسْقِيهِ اللَّهُ الْغَيْثَ، وَتُخْرِجُ الأَرْضُ نَبَاتَهَا، وَيُعْطِي الْمَالَ صِحَاحًا، وَتَكْثُرُ الْمَاشِيَةُ، وَتَعْظُمُ الأُمَّةُ، يَعِيشُ سَبْعًا أَوْ ثَمَانِيًا» يَعْنِي حِجَجًا. [السلسلة الصحيحة:4/40]. ومن الصفات الخَلقية لهذا الإمام قوله صلى الله عليه وسلم: «
الْمَهْدِيُّ مِنِّي، أَجْلَى الْجَبْهَةِ، أَقْنَى الأَنْفِ» [صحيح الجامع:6736]، وأجلى الجبهة: الذي انحسر الشعر عن جبهته، وأقنى الأنف أي: أنفه طويل دقيق الأرنبة مع حدب في وسطه. ومع ما ورد من نصوص بشأن المهدي إلا أن الناس انقسموا في شأنه: فهناك المنكر لظهور المهدي، وهناك المغالي فيه، وهناك من يقف مع النصوص الصحيحة الواردة بشأنه ولا يتجاوزها.
اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. أقول ما سمعتم وأستغفر الله....
الخطبة الثانية
قد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ظهور هذا الإمام قبل نزول عيسى عليه السلام فقال: «
كَيْفَ بِكُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟» [
صحيح مسلم:155].
وقد بيّن كثير من العلماء أن أحاديث المهدي تصل إلى حد التواتر المعنوي، يقول سماحة العلامة ابن باز رحمه الله: "أمر المهدي معلوم، والأحاديث فيه مستفيضة، بل متواترة متعاضدة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم تواترها، وتواترها تواتر معنوي، لكثرة طرقها، واختلاف مخارجها وصحابتها ورواتها وألفاظها، فهي بحق تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت، وخروجه حق، وهو محمد بن عبد الله العلوي الحسني، من ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب".
وقد ادعت بعض الفرق والطوائف الضالة لزعيم لهم أنه
المهدي المنتظر، والرافضة تدعي أن المهدي هو إمامهم المنتظر الذي ينتظرون خروجه من السرداب، ويسمونه محمد بن الحسن العسكري، دخل سرداب سامراء طفلًا صغيرًا منذ أكثر من خمسمائة سنة، وهم ينتظرون خروجه. ووجد كثير من الأشخاص ادعى أنه المهدي، وكلهم كاذبون، حتى يأتي المهدي كما ورد في الأحاديث الصحيحة؛ ويظهر الله أمره؛ ويجتمع عليه المؤمنون.
والقول الوسط في أمر المهدي، هو فهم أهل السنة والجماعة الذين يثبتون خروج المهدي على ما تقضي به النصوص الصحيحة في اسمه واسم أبيه ونسبه وصفاته ووقت خروجه، لا يتجاوزون ما جاء في الأحاديث، كما يقول
ابن القيم رحمه الله: "أَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ وَلَدِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ وَقَدِ امْتَلأتِ الأَرْضُ جَوْرًا وَظُلْمًا فَيَمْلؤهَا قَسْطًا وَعَدْلا، وَأَكْثَرُ الأَحَادِيثِ عَلَى هَذَا تَدُلُّ" اهـ.
ولا يزال في عصرنا الحاضر من يظهر بين الفينة والفينة يدعي أنه المهدي، ليغرر بدهماء الناس وعامتهم ويستغل هذه الشخصية لمطامعه الخاصة، لكن الله يُظهر كذبهم ويفضح باطلهم، ولا نعجب، فقد ادعى قوم النبوة وافتروا على الله
الكذب، {
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93].
والواجب عدم الخوض في أمر المهدي بالتوقعات والمنامات، ونكتفي بما وردت به الأحاديث الصحيحة، ونوقن بأن علامته ستكون ظاهرة في وقتها؛ فهي من علامات
الساعة وستكون له الولاية؛ وسيكون له النصر، وسيقيم العدل، ويعمُّ الخير.
اللهم قنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم أعز الإسلام والمسلمين. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح ووفق أئمتنا وولاة أمرنا.