جاءتني يوما معاملة لحصر الإرث، من أصحابها شيخ عجوز كبير السن محني الظهر،
ترتجف يداه من الكبر يسيل ريقه من فمه من المرض،
فرأفت به وقلت لهم: لماذا كلفتموه المجيء؟ أنا كنت أذهب إليه.
قالوا: ما معناه أجرة السيارة ولا بد من الكشف.
قلت: سبحان الله، هل سمعتم من أحد أني أكلف الناس ما لا يطيقون.
إنني أذهب إليكم كما أذهب إلى كثير من أمثالكم لا أرزؤكم شيئا، وأدفع أجرة السيارة من جيبي.
وأقعدته وسألته عن اسمه فقال: مسـ… مسـ… مسلم.
قلت: لا أسألك عن دينك بل عن اسمك.
فنطق بحروف متقطعة جاء منها اسم ((مسلم وردة)). فدهشت وقلت: مسلم وردة؟! قال: نعم؛ مسـ… مسـ… مسلم وردة. قلت: أنت الذي كان… واستحييت أن أكمل الجملة.
قال: نعم، أنا الذي كان.
فقلت في نفسي: لا إله إلا الله. إنكم لم تعرفوا إلى الآن لماذا دهشت ولماذا تشهدت.
أنا أقول لكم، ليعتبر المغتر بقوته المعتز بسطوته،
وليعلم أنه لا يدوم في هذه الدنيا غنى ولا فقر ولا تبقى قوة ولا ضعف،
وأنها تذل العزيز وتعز الذليل، وتفقر الغني وتغني الفقير، وتنزل العالي وتعلو بالذي نزل.
مسلم وردة –يا أيها القراء- اسم كان أهلونا ونحن صغار يخوفوننا به، فنكف عن الحركة ونقف عن الضجيج ونفعل ما نؤمر.
كان أحد العصاة أيام الأتراك، يعتصم برؤوس الجبال: جبل قاسيون،
ومن خلفه جبال معربة والتل ومن أمامه جبال المزة ودمر،
فيبعثون إليه بالفرقة من الجند فيكسرها وحده ويردها على أعقابها،
وكان يفرض الإتاوة على الأغنياء فلا يملكون منه امتناعا.
انتهت به الحال إلى ما قرأتم.
ولقد أبصرت مرة في الرائي رجلا ضخم الجسم مقعدا على كرسي ذي دواليب،
لا يستطيع أن يقف على قدميه ولا يمشي برجليه، قالوا: إنه ((طرزان)).
طرزان الأصلي الذي كان يراه الناس في الأفلام، يعيش في الغابات مع الوحش
يصارع السبع بسكينه فيغلب السبع، يتخذ حبلا طويلا يعلقه بهام الأشجار،
فيمسك به ثم ينتقل من شجرة إلى شجرة، انتهى به الأمر أن يربط بكرسي ذي دواليب!
فمن لم يعتبر بغيره صار هو العبرة لغيره.
من ذكريات الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله