بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام ؛ يتوهم المسلمون أنّ أوامر الدين تقتصر على العبادات الخمس التي أشارت إليها الأركان الخمسة للإسلام ؛ من صلاة، وصيام، وحج، وزكاة، ونطقٍ بالشهادة.
لكن الحقيقة ؛ واسمعوا لهذه القاعدة، أنّ كل أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، أيّ أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب.
لذلك أنت أمام، آلاف بل عشرات الآلاف من الأوامر الإلهية، وإذا كنت مؤمناً حقاً فكل آيةٍ قرآنيةٍ تتوجه إلى المؤمنين تشير إلى أمر:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
( سورة التوبة:119)
هذا أمر:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ﴾
(سورة الأنفال الآية: 1)
هذا أمر:
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾
( سورة البقرة: 43)
هذا أمر، فأيّ أمرٍ في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، وأنت حينما تقرأ كلام الله عز وجل، انتبه إلى أفعال الأمر، إذا أتى أمر فلم تتحرك نحو تطبيقه فلست مؤمناً.
والآن ما الأمر ؟:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾
ما هي ذات البين، هي النفس التي بين جوانحك، أنت الآن مأمور من قِبَلِ الله عز وجل بآيةٍ قطعية الدلالة، قطعية الثبوت أنْ تصلح ذات بينك، وكيف تصلح ذات بينك ؟ عن طريق تطهيرها من الأدران، وتحليتها بالكمال، عن طريق تطهيرها من الأدران، فأمراض النفس كثيرة، الِكبرُ من أمراض النفس، الأثرةُ من أمراض النفس عدم الإنصاف من أمراض النفس، المحاباة من أمراض النفس، النفاق من أمراض النفس، العجُب من أمراض النفس، الحقد من أمراض النفس، القسوة من أمراض النفس.
﴿َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
بتنقية نفوسكم من النقائص، من الأدران، من الأمراض، هذه الأمراض هي التي تعذِّب صاحبها يوم القيامة، بل إن أمراض الجسد تنتهي عند الموت لكن أمراض النفس تبدأ تأثيراتها السلبية المؤلمة الساحقة المُشقية عند الموت.
قال تعالى:﴿َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
لا يُكتفَى بتطهير النفس من الأدران، لا بد من تحليتها بالكمال، تحليتها بالرحمة، بالإنصاف، بالإيثار، بالتضحية بالإكرام، بالالتزام، بالتواضع، هذا هو المعنى الأول، وللآية ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول أصلح نفسك، والدليل:﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
( سورة: الشعراء 89)
إذاً في جزء من وقتك يجب أن تستبطن ذاتك، أن تتأمل هل هناك أغلاط ؟ هل هناك أمراض ؟ هل هناك أدران ؟ هل هناك نقائص ؟ هل هناك أمراض نفسية ؟ أفيَّ حقد وفيَّ كبر ؟ أفيَّ عُجب ومحاباة ؟ أعنديَ نفاق وتدليس ؟ ألديَّ تدجيل وتزوير ؟، هذه كلها أمراض تهلك صاحبها، بعد أن كرمك الله بأن تتخلى، أو أن تتطهر من هذه الأمراض، هل هناك كرم ؟ هل هناك عفو ؟ هل هناك رحمة ؟ التخلية والتحلية، التطهير والتنوير.
إذًا حسب المعنى الأول:
﴿ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أي النفس التي بين جوانحكم، أمّا المعنى الثاني:
﴿َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أصلح ما بينك وبين إخوانك، فما يكون لديكم تقاطع، ولا تدابر وبغضاء، ولا شحناء، وخصومات، مثل علاقات مالية سيئة، علاقات اجتماعية سيئة.﴿َأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أصلح ما بينك وبين المؤمنين، وهم أولى الناس بمودتك، وأصلح ما بينك وبين الناس عامةً.
فما بينك وبين الناس قد يزول بالاعتذار، بحل مشكلة، فأحيانًا تنشب في خصومةٌ بينك وبين أخٍ، فهديةٌ كما قال عليه الصلاة والسلام:
((هذه الهدية تذهب بوحل الصدر))
اعتذار، اعتراف، أداء حقوق، طلب مسامحة، تقديم هدية، فهذه العلاقة السيئة، هذه الخصومة، هذه المشاحنة، هذا الحقد، هذا الارتباك، هذا الاضطراب يجب أن يزول، وممكن إزالته وأنت على وجه الأرض، هو قضية سهلة، لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة، أيْ أدِّ الحق يسامحك، أدِّ الحق يعفُ عنك.
المعنى الثالث، أصلحْ ما بين الناس.
أولاً أصلح نفسك التي بين جنبيك داخلياً.
ثم أصلح ما بينك وبين الآخرين، فهذه علاقة أنت أحد أطرافها.
ثم أصلح ما بين شخصين.
الإنسان المؤمن دائماً يصلح ولا يفسد، يصل ولا يقطع، فإذا دخل إلى بيت أخته مثلاً، وأثنى على زوج أخته، يقرِّب بين الزوجين، أما إذا ذمَّ زوج أخته، ما هذا البيت ؟! كيف وسعكما ؟! والله يليق بكِ قصر، ماذا فعلت أنت ؟ لقد أفسدتَ بين أختك وزوجها، أما إذا أثنيت على أخلاق صهرك ؛ إنسان شهم، طيب، والأصل الأخلاق يا أختي، وهذا رجل عظيم، وأسأل الله أنْ يكرمه لكل تكرمة، فهذا كلام، وذاك كلام، لكن شتّان بين الإيجاب والسلب.
المؤمن دائماً يصلح بين زوجين، بين أخوين، بين شريكين، بين أب وابنه، بين أخ وأخيه، بين شريك وشريكه، دائماً يصلح، ولا يفسد، والشيطان دائماً يفسد، كيف ما تحرك قطع العلائق، فأول معنى، أصلح نفسك، بتطهيرها من الأدران، وتحليتها بالكمال.
المعنى الثاني، أصلح ما بينك وبين إخوانك، وكن منصفًا، أدِّ الذي عليك، اعتذر إذا وقعتَ في خطأ، أدِّ الحق إذا كان عليك حق، وإذا كنتَ مقصِّرًا فعالج التقصير، وإنْ تُحل القضية بهدية فقدِّم هدية، وإنْ تُحل بزيارة فزرْهُ، وبادره بالزيارة، لا تسمح ببقاء علاقة متوترة، ولا علاقة متشنجة، لا تَدَعْ حقدًا، أو خصومة، أو انحرافًا يفرِّق بينك وبين الآخرين، أصلح ذات بينك.
الحالة الثالثة، أنت تعيش في مجتمع، لك جيران، لك أقرباء لك أزواج بنات، لك أزواج أخوات، لك أصهار، لك أولاد، حاول أنْ تقرِّب بين الناس.
لذلك أفضل شفاعةٍ أن تشفع بين اثنين في نكاح.
قال لي رجل: شكوت إلى أخٍ أختَه، أخ زوجته، أختك تفعل معي كذا، أختك تفعل كذا.
قال له: طلقها، واللهِ هذا أحسن لك، أهذه نصيحة !؟ لكني أقول: هذه قبيحة وليست نصيحة.
قال له: طلقها أحسن لك، هذا إنسان مفسد ! فالشيطان دائماً يحلو له الإفساد، تقطيع العلاقات، إيقاع ذات البين، إقامة هوّة بين الناس، المؤمن من صفاته الأساسية، يقرب، يوحد، يؤلف.
لذلك أحيانًا كلمة قد تكون مدمِّرة.
((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))
لا يلقي لها بالاً.
(( لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه))
قال
( يا رسول الله وهل نؤاخذ بما نقول، قال ويحك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم))
قضية كبيرة، فهذه آية، لتَكُن القاعدة عندك ؛ وهي أنّ كل أمرٍ يقتضي الوجوب، فأنت لستَ أمام خمسة أوامر في القرآن، صوم، وصلاة وحج، وزكاة، أنت أمام مئة ألف أمر، هذا أمر منها.
قال لك:
﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
يجب أن تكون مع المؤمنين، أن تكون معهم بكلِّيتك.
قال لك الله عز وجل:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾
( سورة الكهف: 28)
هذا أمر.
فاقرأ القرآن، وكلما وقفت على أمرٍ دقق، أين أنا من هذا الأمر ؟ هل أنا مطبقٌ له ؟ فهذا أمر:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾
أصلح نفسك وحدها، وأصلح ما بينك وبين الآخرين، وأنت طرفٌ، وأصلح بين اثنين، وهذا من صفات المؤمن، والقرآن كما قال سيدنا علي: حمَّال أوجه، أيْ له أوجه كثيرة.
إذاً مرة ثانية:
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)﴾
فإذا حفظ الإنسان هذه الآية، وكلما جلس مع أخ، بيَّن له معناها، ولها ثلاثة معانٍ بسيطة:
أصلح نفسك بالاتصال بالله تشفَ من أمراضك.
أصلح نفسك بالاتصال بالله تتحلَّ بالكمال، كمِّل نفسك أولاً، وكل علاقة، مع أقربائك، مع جيرانك، مع زبائنك، مع أصحابك، مع زملائك بالمهنة، أصلحها، بالاعتذار، بأداء الحقوق، بتقديم هدية، وكذلك أصلح بين اثنين إنْ كنت تعرف بوجود خصومة بين زوجين، الزوج يكون ابن أخيك فرضاً، والزوجة تكون بنت أختك مثلاً، لا تقل: يصطفلوا ! "ينباعوا بالعزى" ! "فخار يكسر بعضه"، هذا من أخلاق الشيطان، لكنك أصلح ذات بينك، وذات بين الناس.
أحيانًا تنشأ بين زوجين خصومة، فالزوج ركِب رأسه، والزوجة ركبت رأسها، فهما يحتاجان طرفًا ثالثًا يوفِّق بينهما، يكون هو كبش الفداء، اذهب وزُرْ أهل الزوجة، وبيِّن لهم شمائل الزوج، وزُرْ الزوج، وأقنعه أنّ زوجته جيدة، وفِّق بينهما، المؤمن من شأنه أن يصلح، والمنافق من شأنه أن يفسد، ودائماً يقطع العلاقات، أمّا المؤمن فإنّه يصلها، والنبي يقول:
((ليس منا من فرق ))
ليس منا، يعني برئ النبيُّ منه ومِمّن يفرّق بين الناس، أحيانا يفرق بين علماء المسلمين، يحضر مجلسَ علم، يسمع كلمة فيخطفها خطفًا ولم يفهمها، ينقلها لعالم آخر، سيدي هكذا قال فلان، فما قولكم، فتحرجه أنت بكلام غلط، تحدث أحيانا خصومات بين دعاةٍ، ما السبب ؟ هم كلهم على حق، لكن لأنّ النقل عنهم غلط، النقل عنهم كان مغلوطًا.
فالمؤمن يصلح دائمًا، ولا يفسد، يصل ولا يقطع.
آخر حديث:
((أمرني ربي بتسع ؛ خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضى، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعف عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرةً ))
والحمد لله رب العالمين